حاضر الرئيس فؤاد السنيورة عن “قضايا الحاضر ومشكلاته في العالم العربي الرؤية والمخارج”، بدعوة من المعهد العربي للتخطيط في الكويت، في حضور حشد من المهتمين ورجال الثقافة والفكر في الكويت.
وقال السنيورة: “ان الإحصائيات تكاد تشير إلى أن ربع أطفال العالم العربي تقريبا في سن التعليم الأساسي هم ربما خارج المدارس، وترتفع هذه النسبة في المرحلتين الإعدادية والثانوية. والإحصاء لا يتناول دول التصدع العربي فقط، بل هناك دول مستقرة ظاهرا، لكن كثيرا من أطفالها لا يذهبون إلى المدارس”.
اضاف: “ان التقاطع أدى إلى تصدع النظام العربي كله. وما عاد الخوف أن تبغي دولة عربية على أخرى، بل صار الأمر الذي تخاف منه أن يتحول العالم العربي إلى مناطق نفوذ للدول الكبرى أو للقوى الإقليمية الثلاث كالذي نشهده حاليا”.
واكد “ان الحاجة الماسة باتت لتعزيز ورفع مستويات البنى التحتية في الكهرباء والاتصالات وفي الطرق والنقل والصرف الصحي والنفايات الصلبة. كذلك أيضا في قطاع المياه الذي تتعاظم المشكلات بشأنه في عدة دول عربية، ولا سيما بنتيجة التغيرات الديموغرافية والمناخية”.
وشدد على “ضرورة القيام باعتمادات السياسات واتخاذ المبادرات اللازمة لتعزيز النمو الاقتصادي وأعمال والتنمية وخفض العجوزات وإصلاح الماليات العامة وتنويع الاقتصادات في شتى الدول العربية، وذلك لرفع مستويات العيش وتعزيز نوعيته وللتصدي لازدياد معدلات الفقر المدقع والحد من تفاقم حالة عدم العدالة في توزيع الدخل في العديد من دول العالم العربي”.
وقال : “قبل أربع سنوات، وقفت محاضرا في رحاب المعهد العربي للتخطيط، وهو المعهد الذي أحترمه وأعتز بأعماله باعتباره أحد أهم المؤسسات العربية المشتركة المقدر لها تمسكها برسالتها وحرفيتها ورصانتها. وكان ذلك في مناسبة افتتاح المؤتمر السنوي لشبكة معاهد ومراكز التدريب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد كان عنوان المؤتمر في حينها: الدولة وقدراتها البشرية- تحدي البناء في أزمنة التغيير. ذلك الجهد التدريبي والتنويري للمعهد، الذي ما يزال يثابر على بذله، يعكس مدى اهتمام المعهد وكذلك اهتمامنا جميعا في مسألة مستقبل الدولة الوطنية في منطقتنا العربية وتحديدا من أجل تمكينها على النجاح في التقدم على مسارات تحقيق آمال مواطنيها. ويعكس أيضا كيف أنه قد أصبح من أولى الواجبات للدولة الوطنية العربية التصدي للمشكلات القديمة والمستجدة في هذه المنطقة، ولا سيما في مواجهة ما شهدته دول ما سمي “دول الربيع العربي” من أحداث وكوارث ومتغيرات، حيث زادت وتعمقت حالة الاضطراب وتصاعدت احتمالات الفوضى. وهي الحالة التي حملت معها تداعيات خطيرة وهائلة ليس على دول الربيع العربي فقط، بل وعلى المنطقة العربية ككل وعلى العالم. فلقد تعاظمت بنتيجة ذلك كله حال التشرذم والخلافات العربية، والتي فاقمت مشكلة تحول منطقة المشرق العربي إلى منطقة من الضغط المنخفض. ذلك بكونها تتجاور مع ثلاث دول إقليمية من ذوات الضغط المرتفع، وهي إسرائيل العدوة وإيران وتركيا التي بيننا وبينهما خصومة لوجود مشكلات كثيرة معهما. هذا مع ضرورة إدراك الفروقات، في طبيعة الخصومة وحدتها، بشأن المشكلات الكثيرة بين دول منطقتنا العربية وكل من هاتين الدولتين المجاورتين”.
أضاف: “لقد أدى ذلك كله إلى تعميق حالة الخلل في التوازن الاستراتيجي في منطقة المشرق العربي. كما أدى أيضا إلى إدخال المنطقة العربية في خضم مرحلة تتسم بالكثير من الغموض والضبابية وانعدام اليقين يخالطها مجموعة من المتغيرات والعوامل والكوابح والانسدادات والاستعصاءات السياسية والأمنية والدينية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة والمتداخلة. ولقد أسهم ذلك كله في تعميق مشكلات العالم العربي الذي أصبح يعاني من تصدع في بنية الدولة الوطنية، وما يحمله ذلك من انتشار للفوضى، ويستدعيه من مخاطر على الاستقرار وعلى الوحدة الداخلية، وما يتسبب به لبعض الدول العربية من غياب تدريجي خطير لمفهوم السيادة والقرار المستقل وهو من دواعي ضعف وضمور السلطة المركزية”.
وتابع: “هذا في الوقت الذي تتزامن وتستحق فيه الحاجة إلى معالجة العديد من المشكلات الأساسية الأخرى لدى العديد من الدول العربية، والتي جرى وعلى مدى عدة عقود ماضية تأجيل معالجتها أو الاستمرار في إنكار وجودها، ما أدى إلى جعل داء التصدع الداخلي لدى بعضها ناتجا عن عوامل داخلية أكثر من كونه ناتجا عن التدخلات الخارجية. ومن ذلك مسائل الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وصون الحريات العامة ومسائل علاقة الدين بالدولة. وكذلك مسائل ومعالجة مخاوف الأقليات وعلاقاتها بالمجتمع وبالدولة، والمسائل المتعلقة بالحاجة إلى التعامل بحكمة ولكن بجرأة مع التحديات الأمنية والتعليمية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية والإدارية، الناتجة عن عدم التلاؤم بين الواقع والتوقعات، وبين المرتجى والقدرات، من أجل تحقيق النمو والتنمية المستدامة لتعزيز قدرة تلك الدول والمجتمعات العربية على التعامل والتلاؤم مع مقتضيات وتحديات الحاضر والمستقبل”.
واوضح “عندما نتحدث عن قضايا الحاضر، فذلك لا يعني أنها كلها مشكلات مستجدة، فقد يكون بعض منها مستمرا منذ عدة عقود، مثل القضية الفلسطينية التي تبقى قضية العرب الأولى. وربما يكون نتيجة للافتقاد وليس للوجود، مثل قضية الفراغ أو الخلل في التوازن الاستراتيجي في المنطقة العربية. ولا شك أن هذه المشكلات الحاضرة، سواء أكانت قديمة أو جديدة، قد أصبحت في المحصلة ناجمة عن ثلاثة أمور رئيسة: تصدع نظام الدولة الوطنية في العالم العربي والفشل في معالجة مشكلاتها الداخلية، وتراجع فعالية المؤسسات العربية الجامعة، والتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية في أمن الدول العربية وأراضيها”.
الفراغ الاستراتيجي
وتناول السنيورة أولا مسألة الفراغ الاستراتيجي، فقال: “إن أول من تحدث بإلحاح ولعدة سنوات عن الخواء الاستراتيجي العربي، الأمير الراحل سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأسبق، الذي أدرك مدى الخلل والخطر الذي يتسبب به التدخل الإقليمي والدولي في الداخل العربي والأمن العربي وفي الأرض العربية. والحقيقة أن تداعيات ذلك التدخل في الداخل العربي تزداد حدة وتأثيرا لأن الدول العربية لا تملك وجهة نظر واحدة أو متقاربة بشأن تلك التدخلات. فبعضها يعتبرها تدخلات غير مشروعة، والبعض الآخر من الدول العربية يعتبر هذا الجوار أو ذاك حليفا استراتيجيا، وذلك مما يعمق حالة الخلل في ذلك التوازن. والخلاصة أن العرب إزاء تلك المواجهة، هم الطرف الأضعف. إذ إن شروط أي نجاح في الحوار مع تلك القوى أو في التصدي لتلك التدخلات يتطلب بعض التوازن، ويتطلب إدراكا عربيا متقاربا في تقدير المصالح والأخطار والتحديات”.
اضاف: “لقد ظل سعود الفيصل يلح على مسألة التدخل الإقليمي والدولي في تصريحاته حتى العام 2013. والوضع الآن كما نعرف قد بات أسوأ بكثير. فعدد من الدول العربية لم تعد كما كانت في الماضي لاعبا في محيطها كسوريا والعراق بل أصبحت ملعبا لصراعات الآخرين على أرضها. ففي سورية والعراق، لا يحضر الإيرانيون والأتراك وحدهم، بل يحضر أيضا الروس والأميركيون، ومن ورائهم حلفاء آخرون، مثل فرنسا وبريطانيا وعدد آخر لا يحصى من اللاعبين من خارج الدول (Non-State Actors). وإذا وسعنا الإطار، نجد أن التدخلات أيضا موجودة في ليبيا وفي اليمن وفي لبنان. وهي تدخلات ليست بسيطة لأنها تشمل الاحتلال والتغيير الديمغرافي، وتشمل سعي المتدخلين لتغيير الهوية والشخصية وبالتالي تغيير السياسات، وفي الحد الأدنى تعطيل قدرات تلك الدول على الحركة والتصرف وتصحيح المسار. هذا فضلا عن عدم السماح لها، لا بل تعطيل قدرتها على انتهاج أي مسار يخدم مصالحها ومصالح أبنائها!”.
واوضح ” كنا وما زلنا نشكو من عدو إسرائيلي يبتلع الأرض ويشرد الإنسان ويعبث بالأمن ويبث الفتن ويشن الحروب في منطقتنا العربية. وإلى ذلك أصبحنا أيضا نشكو من خصومة مستعرة مع إيران، التي تجند ميليشيات من أهل تلك البلدان للعمل لصالحها منتهكة سيادة تلك البلدان. وهي قد أصبحت مدمرة للإنسان والعمران ومؤججة للانقسامات والخلافات في المجتمعات العربية من الداخل والخارج. والآن وياللأسف وكأن تركيا تتجه الاتجاه ذاته. ولذلك يقتضي التنبه والسعي الحثيث والمبادرة الفعالة لتفكيك تلك القوى وتعطيل تدخلاتها وتنظيماتها ومحاولاتها للسيطرة في الداخل العربي وهي التي أصبحت مطبقة على تلك الدول العربية وغيرها في المنطقة العربية”.
وتابع: “ما هو المخرج من هذا الواقع المستمر في مرحلته الكارثية الحاضرة والماثلة أمامنا، والذي ازداد تأزما ودموية بعد العام 2011؟ إن الذي أفكر فيه أن كل مشكلات بلدان الربيع العربي اتخذت بشأنها قرارات دولية ولكن تلك القرارات لا تنفذ أو أن تنفيذها يلقى عقبات بسبب الاختلاف بين الدول الكبرى على تقاسم الهيمنة والسلطة والنفوذ على تلك البلدان”، مشيرا الى ان تلك الكوارث لم تقتصر على ما شهدناه في تلك الدول. بل تعدى الأمر ذلك، إلى ظهور مشكلات جديدة وكبرى تتمثل بانحسار الروابط الوطنية والعربية وضعف التعاون المشترك بين الدول العربية وتراجع جهود التكامل العربي. وذلك ما أدى إلى أن تطغى على أسطح الاهتمامات العربية مجموعة لا تنتهي من المشكلات المستجدة التي يرتبط بعضها بجنوح نحو استثارة مشاعر وغرائز الهويات والانتماءات الطائفية والمذهبية والعرقية، وهي الآفات التي ارتبطت مع تصاعد ملحوظ في النزعات الشوفينية الضيقة والشعبوية الجارفة، والتي بطبيعتها تعتمد على مغازلة غرائز الجماهير واستثارة مخاوفها الأولية واختراع الأعداء وتضخيم المخاطر الداخلية والخارجية”.
وتحدث السنيورة عن مسألة العروبة، مؤكدا أنه “لا بد بداية من العودة إلى التأكيد على مفهوم العروبة بكونها، وكما جاء في نص إعلان الرياض في مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة في العام 2007، الذي حدد مفهومها بأنها: “ليست مفهوما عرقيا عنصريا، بل هي هوية ثقافية موحدة، تلعب اللغة العربية دور المعبر عنها والحافظ لتراثها، وإطار حضاري مشترك قائم على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، يثريه التنوع والتعدد والانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى، ويواكب التطورات العلمية والتقنية المتسارعة دون الذوبان او التفتت او فقدان التمايز”.
وقال: “إن العروبة المستنيرة والمنفتحة هي التي تجمع بالفعل بين العرب، وتشجع كل معاني وقيم التوسط والاعتدال والانفتاح والحوار والتسامح والحرية والديمقراطية. وهذه العروبة هي التي تؤمن بمشروعية التعدد ضمن احترام الإطار الوطني للدول التي ترعى حق الاختلاف وترفض نزعات الإقصاء والتكفير أو التفتيش في ضمائر المؤمنين، وتحترم الآخر المختلف. وهي العروبة التي تؤمن بالدولة المدنية والتي هي دولة لكل مواطنيها، والمعترفة بحقوق المواطنين المتساويين والتي تحترم حقوق الإنسان على أساس الاعتراف بحقوق وواجبات المواطنة دون اي تمييز بين المواطنين على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي أو مناطقي”.
واعتبر “ان العروبة بهذا المعنى لا تصبح فقط مشروع حل لأزمة العلاقات بين الدول العربية بل وأيضا بكونها تشكل سياجا ثقافيا واجتماعيا لحماية كل بلد عربي وللحد أو لوقف كافة أشكال التدخل الأجنبي الإقليمي والدولي في الشؤون العربية”. وقال: “انطلاقا من ذلك، واستنادا إليه، فإني أرى أن الأمر يتطلب تفعيل دور الجامعة العربية كمؤسسة وككيان لتعود فتلعب دورها الذي لا غنى عنه. فتصبح الجامعة عاملا فعالا وجامعا ومساعدا في الدفع باتجاه إحقاق تلك القرارات الدولية. وإذا لم يكن ذلك ممكنا أو سريعا حتى الآن، فلتكن هناك “مجموعة استراتيجية”، من الدول العربية تدفع باتجاه إنفاذ تلك القرارات وتكون مستعدة للمشاركة عن قرب فيها. إن المقصود من وراء ذلك تحقيق الاندفاع نحو نهوض وطني وعربي لاستنقاذ نظام الدولة الوطنية العربية”.
اضاف: “المؤسف والمؤلم أننا كنا نتحدث عن الأمن العربي المهدد، لكننا تجاوزنا منذ سنوات التهديد إلى الواقع المرير الذي أصبح فيه نظام الدولة الوطنية ذاته يتطلب الإنقاذ. وهذا يعني أنه حتى القرارات الدولية، ووسط حالة الضعف المسيطر، تحولت إلى تدخلات لغير صالح وحدة الأرض والسيادة وتؤدي إلى إحداث تغيرات سياسية وديمغرافية في بعض تلك الدول. ولذلك قلنا إنه لا بد من مجموعة استراتيجية عربية تبادر إلى استعادة المبادرة أو يتهدد الاستقرار في المنطقة كلها وتتهدد السيادة حتى في الدول المجاورة لمواطن الاضطراب وبلدانه، وحتى إلى ما هو أبعد من ذلك. لا بد إذا من مسار جديد ولو بدأ بمعالجة قضايا دولة واحدة مثل ليبيا أو اليمن أو سورية. وبخاصة لأن دول المجموعة الاستراتيجية التي نفكر فيها تملك علاقات جيدة بالنظام العالمي، وبالدول الكبرى الفاعلة فيه”.
وتابع: “وفي هذا المجال، فإني أتصور للمجموعة الاستراتيجية العربية المقترحة إذن ثلاث مهام متعاضدة:
– الأولى: العمل مع إدارات البلدان المتصدعة من أجل استعادة الاستقرار واكتساب المناعة والترميم العمراني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
– الثانية: متابعة الاتصالات الدولية ومع الدول الكبرى من أجل الحث على إنفاذ القرارات الدولية بشأن تلك البلدان.
– الثالثة: النظر بالتساوق مع التواصل الدولي إن صار ممكنا ومجديا القيام بمبادرة أو أكثر تجاه إطلاق الحوار الإسلامي، وذلك على قواعد تعزيز المصالح المشتركة وعلى أساس الاحترام المتبادل الجدي والثابت وأيضا الالتزام بقاعدة لعدم التدخل في الأمور الداخلية للدول الأخرى قولا وعملا”.
التكامل العربي
وتناول السنيورة مسألة التكامل العربي، فقال: لقد كنا نتحدث دائما وبخاصة في معهد التخطيط العربي إلى جانب جهات أخرى عن التكامل العربي، لأنه يقوي كل الدول، ويحقق الأهداف التي قامت الجامعة العربية في الأساس من أجلها. وكانت التحفظات في الماضي تأتي من الخوف على السيادة أو على استقلال كل دولة. وقد كانت سياسات العراق تجاه الكويت نموذجا للمحاذير، بمعنى أن التقارب أو التعاون والتكامل المراد تحول إلى محاولة إلغاء. ونحن الآن في وضع آخر، بمعنى أن التقاطع أدى إلى تصدع النظام العربي كله. وما عاد الخوف أن تبغي دولة عربية على أخرى، بل صار الأمر الذي تخاف منه أن يتحول العالم العربي إلى مناطق نفوذ للدول الكبرى أو للقوى الإقليمية الثلاث كالذي نشهده حاليا”.
ولفت الى انه “منذ التسعينات من القرن الماضي كان الخبراء يقولون لنا أنه ما بقي غير الاستقرار، وإنه ينبغي الحفاظ عليه بأي ثمن. ثم تبين أن الاستبداد لا يستطيع حفظ الاستقرار أيضا. وهذا درس عرفته عشرات الدول والشعوب في العالم الثالث، فأقبلت على إقامة الأنظمة الديمقراطية العادلة بديلا عن أنظمة الاستبداد. وهو الدرس الذي يجب علينا أن نتعلمه نحن العرب الآن بعد متاعب هائلة، فلا ينبغي النسيان أو التخاذل أو التغاضي بما يؤدي إلى تأبيد المشكلات وليس إلى إيجاد الحلول الناجعة”.
الحكم الصالح
وقال: “ما معنى أنظمة الحكم الصالح وكيف الولوج إليه عبر العدالة الانتقالية؟ هناك برأيي سبعة أمور ضرورية في كل نظام وكل بلد عربي من أجل إدامة الاستقرار، ومن أجل الدخول والثبات في عالم العصر وعصر العالم.
– العامل الأول: الاستثمار في التعليم والتعلم المستمر
لا ينكر أحد أهميته في بناء وتعزيز الاستقرار، وفي تحقيق التقدم والمواكبة. وما كان الأمر بهذا السوء حتى في بلدان العالم العربي الفقيرة، كما أصبحت عليه الحال اليوم. فالإحصائيات تكاد تشير إلى أن ربع أطفال العالم العربي تقريبا في سن التعليم الأساسي هم ربما خارج المدارس، وترتفع هذه النسبة في المرحلتين الإعدادية والثانوية. والإحصاء لا يتناول دول التصدع العربي فقط، بل هناك دول مستقرة ظاهرا، لكن كثيرا من أطفالها لا يذهبون إلى المدارس.
ثم هناك ذلك التدني الذي طرأ على مستوى التعليم ونوعيته وتلاؤمه. ولن نعود هنا إلى الإحصائيات التفصيلية. فالقطاعات الرسمية للتعليم الأساسي والجامعي تعاني معاناة شديدة إن لجهة الاستيعاب، وإن لجهة النوعية. وإذا كان هذا هو وضع التعليم الأساسي في الدول المتصدعة والأخرى الفقيرة، فكيف ستكون حالة التعلم في الجامعات، وكيف ستؤهل مخرجاته القاصرة الطلاب والطالبات للدخول في عالم العصر. وأين يذهب مبدأ تكافؤ الفرص؟ وهذا ونحن ما نزال نبحث عن الاستقرار، فكيف إذا وصل بنا الأمر للبحث عن أو النظر في مسألة التقدم والمواكبة، والذي لا سبيل إليه إلا بالتعليم الشامل والنوعي والحديث والتشجيع على التعلم المستمر”.
واكد ان “الاستثمار في التعليم وتطوير المناهج التعليمية المتلائمة أصبح أمرا شديد الإلحاح مع تسارع وتيرة المتغيرات والتحولات الناتجة عن ثورة الاتصالات الكبرى والتحول نحو الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا المعلومات، وضرورة الاستعداد للتعامل مع المتغيرات المرتقبة والناتجة عما يسمى الذكاء الاصطناعي وتداعياته السلبية على العمالة غير الماهرة وشبه الماهرة. كما والحاجة إلى التلاؤم مع المتغيرات على صعيد تلبية حاجات الاقتصاد وأسواق العمل والتي أصبحت تتطلب أقصى أنواع الاهتمام للتوصل إلى المواكبة وكما ينبغي لها أن تكون.
ونوه بالمبادرة التي اتخذها أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في مؤتمر القمة الاقتصادية للتنمية الاجتماعية الذي عقد قبل أيام في بيروت لجهة الدعوة والإسهام في تأسيس صندوق للاستثمار في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي بمبلغ خمسين مليون دولار. وبادرت بعد ذلك دولة قطر إلى الإسهام بمبلغ مماثل، وذلك بانتظار استكمال النصف الثاني من رأسمال هذا الصندوق من قبل القطاع الخاص”.
العامل الثاني: الصحة
وقال: “لقد انهار النظام الصحي في بلدان التصدع. لكنه وأيضا هو قاصر أو ربما ليس قائما في البلدان العربية الفقيرة. وهذا الأمر هو من أكبر عوامل تهديد الاستقرار أو انتشار البؤس. ونحن نعلم أن هذين القطاعين، أعني التعليم والصحة، لقيا عناية وإنفاقا من جانب الدول العربية القادرة، ومن جانب الجهات الدولية. لكن ذلك ما كان كافيا، وعمليات التطوير ما استمرت أو تواصلت، تحت وطأة الفساد أو ارتفاع التكاليف، أو اهتراء إدارات الجهات المعنية. وكما في حالة التعليم، فإن الصحة العامة وأوضاعها أصبحت شديدة الوقع ليس على الاستقرار فقط، بل وعلى انتشار الفقر والبؤس والموت العشوائي، وبالتالي على زيادة حدة الاحتقان والغضب لدى قطاعات واسعة من المواطنين، وبالتالي اليأس المؤدي إلى التطرف والعنف والإرهاب وفي المحصلة إلى عدم الاستقرار”.
– العامل الثالث: الخدمات أو القطاعات الأساسية
واكد انه مثل الحاجة الماسة لتعزيز ورفع مستويات البنى التحتية في الكهرباء والاتصالات وفي الطرق والنقل والصرف الصحي والنفايات الصلبة، كذلك أيضا في قطاع المياه الذي تتعاظم المشكلات بشأنه في عدة دول عربية، ولاسيما بنتيجة التغيرات الديمغرافية والمناخية، وبسبب مخاطر الجفاف وارتفاع موجات نزوح البشر وتعاظم عدد اللاجئين والمهاجرين قسرا بما يشير إلى أن المستقبل سيكون أسوأ لهذه الناحية في مشارق العالم العربي ومغاربه ما لم تجر المسارعة إلى العمل على معالجته بالجدية اللازمة وبالمثابرة التي تقتضيها فداحة المشكلة.
– العامل الرابع: ويتمثل في ضرورة القيام باعتمادات السياسات واتخاذ المبادرات اللازمة لتعزيز النمو الاقتصادي وأعمال والتنمية وخفض العجوزات وإصلاح الماليات العامة وتنويع الاقتصادات في شتى الدول العربية، وذلك لرفع مستويات العيش وتعزيز نوعيته وللتصدي لازدياد معدلات الفقر المدقع والحد من تفاقم حالة عدم العدالة في توزيع الدخل في العديد من دول العالم العربي.
واكد “ان هناك حاجة ماسة أيضا للقيام بعمل جاد للنأي باقتصاداتنا العربية عن الاستمرار في إقحامها في الخلافات العربية- العربية والتأكيد على وجوب عزل التعاون الاقتصادي العربي عن الاختلافات السياسية وسياسات المحاور. والمأمول أن يسمح ذلك بالانطلاق بشكل قوي وحاسم باتجاه التصدي لمشكلة النقل والانتقال داخل العالم العربي وبين دوله وبحلول جماعية. وذلك من طريق ربط العالم العربي بعضه ببعض بطرق وسكك حديدية، وخطوط نقل بحري وفتح الأجواء لمزيد من الحركة الجوية بين دولنا العربية. وهذه الوسيلة هي الأجدى والأولى في مجال تسهيل ربط اقتصاداتنا بعضها ببعض وتسهيل حركة انتقال الأشخاص والبضائع بين دولنا العربية، بما يسهم في التقدم خطوة عملية باتجاه التكامل بين دولنا العربية وتعزيز التبادل التجاري البيني ومجالات الاستثمار المشترك وفي المحصلة الاعتماد المتبادل.
– العامل الخامس: تعزيز الجهود باتجاه التوصل إلى أن تكون لدينا حكومات مسؤولة ورشيدة، وحث تلك الحكومات بالعودة إلى احترام أنظمة ومعايير الكفاءة والجدارة بإيلاء المناصب العامة أكفاءها والمحاسبة على أساس الأداء. ففي عدد ليس بالقليل من الدول العربية هناك قصور هائل في إقامة الإدارة الحديثة والشفافة والمسؤولة، والتي تتعرض قراراتها وتصرفاتها للمراجعة والتدقيق والمحاسبة. الفساد مشكلة هائلة في العالم العربي. وفي الدول ذات الموارد الضئيلة أو المتضائلة، يصبح الفساد المستشري فضيحة مستمرة دونما مساع كافية للصلاح والإصلاح والتدارك”.
وأعلن ان “هناك مشكلة تتفاقم في هذه الآونة والتي ينبغي تداركها والتنبه إلى كيفية التعامل معها. ذلك أنه يترافق مع تلك الأجواء المشحونة تحولات خطيرة تسهم في تقويض الثقة في المؤسسات القائمة والتي تسهم فيها بعض وسائل التواصل الاجتماعي والتي تعترض عمل الإدارات والمؤسسات العامة في عدد من البلدان العربية. إن بعضا من تلك الانتقادات ما هو صحيح وآخر مبالغ فيه والبعض الآخر غير صحيح على الإطلاق. وفي هذا الخصوص تفاقم بعض وسائل التواصل الاجتماعي غير المسؤولة كونها تدفع باتجاه ترويج بعض الأفكار غير الصحيحة بما يسهم في تشكيل مناخ مشحون من الإحباط والتشويش والتحريض والغضب واليأس يكون من نتيجته إضعاف الثقة في بعض المؤسسات القائمة وذلك عن غير وجه حق. ان هذا الأمر يتطلب تعميم ثقافة مسؤولة تسهم في تشجيع المواطنين على التنبه لعدم الانجرار إلى ما ليس في مصلحتهم أو مصلحة أوطانهم”.
– العامل السادس: الخراب ومشكلات إعادة الإعمار ومشكلات المحتجزين والمهجرين، لدينا نحن في العالم العربي اليوم تحد ربما غير موجود في معظم دول العالم أو على الأقل ليس بهذا القدر. إذ أن العالم العربي الذي يشكل قرابة ستة بالمائة من عدد السكان في العالم يمثل عدد المهجرين فيه ما يقارب من 55% من مجموع عدد المهجرين في العالم. هذا بالإضافة إلى وجود أعداد كبيرة من المسجونين دون أن يحصلوا على محاكمة عادلة. كذلك فإن العالم العربي يعاني معاناة شديدة في خراب أربع أو خمس بلدان عربية. فهناك ملايين من المهجرين في سورية ولبنان والعراق والأردن وليبيا واليمن والسودان. من جهة أخرى، فإن بلدان الاضطراب صارت منطلقا للهجرة إلى أوروبا، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات على أكثر من صعيد. كيف يعود هؤلاء إلى مساكنهم في القرى والبلدات، وكيف يعاد الإعمار، وكيف تعود الإدارات إلى العمل، وهذا إذا انتهى الاضطراب، وإذا تطورت أنظمة للعدالة الانتقالية والحكم الصالح والرشيد.
– العامل السابع: التأكيد على توافر الحريات الأساسية، مثل الانتخابات الحرة والمنتظمة وحرية التعبير، واستقلال القضاء، والقدرة على المشاركة في القرار الوطني والبلدي والمحلي.
لقد أخرت هذا الأمر أو هذا العامل في الذكر مع أنه أساسي للحكم الصالح، وللعدالة الانتقالية، باعتبار أن العوامل التي ذكرتها هي التي إذا صلحت، أمكن وتدريجيا أن يتكون المواطن الحر والصالح. لكن كما تعلمون، فإن هناك مذهبا في العالم اليوم أن الحريات الأساسية، هي المقدمة لصلاح وإصلاح كل الشؤون الأخرى”.
وأعلن انه “على مدى تاريخنا الماضي والحاضر لم يكن الأمل وحده ما كنا نحتاجه، وعلى أهميته الكبرى، في مواجهة المحن والأزمات وتحقيق النهوض الذي نريده. ولكن ما كان نصيرنا في الماضي وسيكون نصيرنا الآن وفي المستقبل هو الشجاعة في مواجهة الحقيقة وفي المبادرة الى اجتراح الحلول الصحيحة والحقيقية والدائمة، وفي الإرادة الصامدة والثابتة والمثابرة في شتى مجالاتها على تصويب بوصلتنا والتقدم على مساراتها حتى يتم لنا ما نريد وتريده شعوبنا العربية”.
وختم السنيورة:” لقد أثقلت أسماعكم وكواهلكم بأمور تعرفونها جيدا وأنتم أولو الخبرة والتجربة منذ عقود وعقود. والمهم في خبرتكم وتجربتكم أنكم مهتمون ومهمومون. لكنني مثلكم مؤمن بثلاثة أمور: أولها، لا بديل عن العروبة وعن الدولة الوطنية العربية ذات الحكم الصالح والرشيد. وثانيها، لا بديل عن الإرادة والتصميم. وثالثها، لا بديل عن التصدي للمشكلات رغم هولها، والأمل من طريق الإرادة القوية، والتعاون والتكامل، واستنباط الفرص من المشكلات والمآزق، إما بالتجاوز أو بالنجاح في قطاع يقود إلى نجاحات في القطاعات الأخرى، والبلدان الأخرى”.