ليس واضحاً ما الذي يستند إليه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في جزمه أنّ بالإمكان إعادة الودائع التي تساوي مئة ألف دولار أو أقلّ، على وجه السرعة، ومن دون عقبات. لكنّ كلامه عن خطة التعافي يشي بأنّه يراهن على البقاء في السراي الحكومي لفترة ممتدّة، وبأنّ خطة التعافي التي أعدّها مع نائبه سعادة الشامي، ما زالت هي “المانيفست” الصالح للخروج من الأزمة في مرحلة ما بعد التسوية السياسية حين يحين أوانها.
يوضح ميقاتي في مقابلته الأخيرة، مع الزميل سامي كليب، الخطوط العريضة لمعالجة “خطة التعافي” لمسألة الودائع، وهي تنقسم إلى شقّين:
– الأوّل يتعلّق بحماية أوّل مئة ألف دولار لكلّ مودع (وليس لكلّ حساب)، على مستوى القطاع المصرفي ككلّ.
– والثاني يتعلّق بتوفير معالجات متعدّدة لما يفوق مئة ألف دولار من الودائع، من خلال إنشاء صندوق استرداد الودائع، بعد تصفية “غير المؤهّل” منها، وحسم “فائض الفوائد” منذ عام 2015.
ليس واضحاً ما الذي يستند إليه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في جزمه أنّ بالإمكان إعادة الودائع التي تساوي مئة ألف دولار أو أقلّ، على وجه السرعة، ومن دون عقبات
الثقة التي يتحدّث بها ميقاتي تشير إلى أنّ خطّته تحظى بدعم خارجي كافٍ من صندوق النقد الدولي وفرنسا، وربّما من واشنطن. وبالتالي فإنّها كاملة الصلاحية للاستخدام حين ينضج التفاهم الإقليمي والدولي حول “التركيبة” الجديدة، من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة مجلس الوزراء.
وإذا كان الدخّان الأبيض لم يتصاعد من اجتماع باريس، الذي ضمّ كلّاً من فرنسا والولايات المتّحدة والسعودية وقطر ومصر، فإنّ الحركة الدولية والإقليمية بحدّ ذاتها تؤكّد جدوى إعداد “المانيفست” الاقتصادي والمالي، ووضعه في الثلّاجة، إلى حين نضوج الحلّ السياسي.
لكنّ المخاض يكمن في المعادلة الاقتصادية – السياسية التي تقوم عليها خطة الخروج من الأزمة، وهي ليست أقلّ من “اتفاق دوحة اقتصادي”، بعد “ميني حرب أهلية ماليّة” خسر فيها المودعون عشرات مليارات الدولارات، وغنم فيها المقترضون وفئات أخرى مكاسب بعشرات المليارات في المقابل… على أن يتضمّن الحلّ ما يشبه “العفو العامّ” الشامل عن الجرائم المالية.
مساهمة الدولة في الحلّ
في الاقتصاد السياسي للحلّ، لن تقدّم الدولة سوى إسهام محدود لإعادة هيكلة مصرف لبنان، لا يتجاوز سندات بقيمة 2.5 مليار دولار، فيما ستتمّ إحالة كلّ الأصول والمطلوبات الرديئة إلى صندوق استرداد الودائع، لينحصر ضجيج الأزمة ووسخها وخسائرها هناك، ويمكن لأصحاب البنوك أن يفتحوا صفحة بنظام ماليّ خالٍ من التوظيفات الهالكة لدى مصرف لبنان ومن مطالبات المودعين.
أمّا المودعون فتقضي خطة ميقاتي برفد صندوق استرداد أموالهم من أربعة مصادر:
– الدولة
– مصرف لبنان
– البنوك
– الأموال المنهوبة
الثقة التي يتحدّث بها ميقاتي تشير إلى أنّ خطّته تحظى بدعم خارجي كافٍ من صندوق النقد الدولي وفرنسا، وربّما من واشنطن
الخطة ضبابية جدّاً في شأن مدى إسهام الدولة فعليّاً في إعادة الودائع، والشعار (الشعبوي) الطاغي أنّه لا ينبغي للدولة أن تتنازل عن شيء من أصولها لحلّ الأزمة. مع علم الجميع أنّ ما يحكى عن وضع أصول لاستثمارها واستغلال عوائدها لمصلحة الصندوق ليس أكثر من وهم مسكّن، ويتطلّب مئة سنة لإعادة الودائع، هذا في أكثر السيناريوات تفاؤلاً لحسن الإدارة والحذاقة الاستثمارية!
أمّا مصرف لبنان فهو مفلس تقنيّاً، وليس لديه ما يساهم به إلا بقيّة الاحتياطيات الأجنبية، وهي عمليّاً أقلّ من التوظيفات الإلزامية للبنوك من أموال المودعين أنفسهم. لا يبدو أنّ أصحاب البنوك مستعدّون للمساهمة في تعويض المودعين عمّا يقولون إنّها خطايا الدولة.
“الدوحة الاقتصاديّ”
صيغة “اتفاق الدوحة الاقتصادي” التي عرّبها ميقاتي والشامي توفّر حدّاً ضئيلاً من تعويض المودعين وفق المعادلة التالية:
– التخلّص من صغار المودعين، ذوي الضجيج الكبير والحسابات الصغيرة.
– خسارة كبيرة للمودعين الكبار (غير “المدعومين”)، وعدم إعادة ودائعهم إلا على مدى سنوات طويلة وبحسم كبير.
– عدم وجود آليّات واضحة لاستعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج في بداية الأزمة.
– عدم المساس بمكتسبات أصحاب البنوك الذين استفادوا من مرحلة ما قبل الأزمة.
– عدم المساس بالمكتسبات التي حقّقها المقترضون، من رجال أعمال وشركات وأفراد.
– ليلرة جزء كبير من الودائع، مع تطبيق حدود سحب لا تؤدّي إلى انهيار سعر الصرف.
حين قال ميقاتي إنّه واثق من أنّ الذين حطّموا واجهات المصارف ليسوا مودعين كان على حقّ لأنّه يعرف أنّ المودعين الباقين ليسوا من الطبقة التي تنزل إلى الشارع وتحرق الدواليب، بل إنّ 95% من المتضرّرين هم من الطبقتين الوسطى والغنيّة (سابقاً على الأقلّ). وبالتالي فإنّ تصفية الودائع الصغيرة تهدف أساساً إلى التخلّص من هؤلاء الذين يمكن أن يُحدثوا الضجيج عند أبواب المصارف. وهذا هو الشقّ الأسهل والأقلّ تكلفة.
من هم “المودعون” فعلاً؟
أمّا لبّ القضية فيتعلّق بكبار المودعين (الباقين بعد تصفية نحو 30% من الودائع الدولارية منذ بداية الأزمة). وهنا لا بدّ من التدقيق في التكوين السياسي لشريحة المودعين الذين لم يبيعوا ودائعهم بشيكات أو يسحبوها بحسم كبير.
حتى الآن، يبدو من الانطباع الظاهري أنّ المودعين “المدعومين” خلّصوا أمورهم وهرّبوا أموالهم، إمّا قبل الأزمة وإمّا في السنة الأولى بعد اندلاعها. وكان ذلك بتكلفة باهظة ناهزت ثلث احتياطيات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية. لكنّ الفائدة الكبرى للقطاع المالي أنّها ارتاحت من أولئك القادرين على الضغط على البنوك والمصرف المركزي.
في الأسابيع الماضية، طرأ مستجدّ في المعادلة، وهو ارتفاع أصوات خارجية ضاغطة من رجال أعمال عرب، مثل خلف الحبتور وطلال بو غزالة. وفي المستوى الداخلي، ربّما تظهر قوى ضغط من أوساط المودعين في اللحظة الحاسمة. لكن حتى ذلك الحين يبدو أنّ “اتفاق الدوحة الاقتصادي” كُتبت خطوطه ورُسّمت موازين قواه، فمن ربح ربح، ومن خسر خسر.
المصدر : أساس ميديا – عبادة اللدن