إكرام صعب
في عمل مسرحي حديث يتقاطع فيه الفن مع المعاناة، تقف ثلاث شابات على الخشبة ليقدّمن “قصص مريم”: مسرحية وثائقية نابضة، تنبض بالحقيقة، وتستحضر وجع النساء العربيات في زمن الحرب واللجوء والقمع، بأسلوب يُجيد محاكاة الألم دون الاتجار به، وينقل الحكاية دون أن يصادر صوت صاحبتها.
على مدى 49 دقيقة، تتناوب غالية صعب ،ميرنا الجردي، فرح كردي، وعلى أداء مشاهد تستعيد شهادات نساء من لبنان، سوريا، فلسطين، والأردن، في فضاء مسرحي بسيط من حيث الديكور، لكنه عميق من حيث الإضاءة والتعبير الجسدي. العرض الذي كتبته وأخرجته فرح ورداني، لا يقدم قصة واحدة بل مجموعة روايات متقاطعة، تُمثل مئات النساء اللواتي مررن بتجارب الأسر، العنف، التشريد، الفقد، والنضال.
مريم… أكثر من شخصية
“أنا مريم، أنا فنانة أعبّر عن وجعي ووجع ناسي”… تقولها إحداهن في مشهد يتقاطع فيه الأداء الجسدي مع صوت مكتوم لصرخة لم تنطلق بعد. لا تمثّل “مريم” امرأة واحدة، بل هي صوت جماعي لنساء كثيرات حملن هذا الاسم أو حملنه بالمعنى الرمزي: الأم، الأسيرة، اللاجئة، الزوجة التي ما زالت تفتّش بين الصور عن زوج مفقود منذ 15 عامًا، الشاهدة على تهجير متوارث من أرمينيا إلى فلسطين إلى سوريا ولبنان، وحتى انفجار 4 آب الذي لم يُمهلها.
في العرض، تقول احداهن بشجاعة“خذوا عذريتي إذا كانت تعيد أرضي…”
وتروي أخرى قصة أم باعها زوجها لداعش ليهرب إلى أوروبا، وثالثة تصرخ:
“نحن الفلسطينيات منعلّم الحياة!”
الوجع لا يُقدّم هنا كضحية، بل كأداة مقاومة. الجسد وسيلة تعبير، والصوت ناقل لذاكرة ثقيلة، أما النص، فيتجاوز البوح ليلامس نقدًا للهوية الثقافية، لنظرة الغرب للمرأة العربية، ولعنف الأنظمة والسياسات في آن.
فرح ورداني: “العرض مساحة تفريغ ومواجهة وتوثيق لذاكرة نسوية”
في حديثها لـموقع nextlb ، تؤكد كاتبة العمل ومخرجته فرح ورداني أن النص مبني على شهادات واقعية تم جمعها خلال برامج للعلاج بالفن في لبنان، الأردن، ومناطق أخرى. تقول“النساء اللواتي شاركن في هذه الورش هنّ ضحايا عنف جسدي أو جنسي أو نفسي، ناجيات من الحرب أو الأسر، أو لاجئات يعشن تداعيات النزوح اليومي.
وتوضح ” تم عرض «قصص مريم» قبل اندلاع الحرب على غزة، لكن المصادفة جعلت عرضه الأول يتزامن مع ذروة المجازر هناك، وبعد أيام اندلعت الحرب على لبنان. قدّم للمرة الأولى في بلجيكا خلال مؤتمر أوروبي للعلاج بالفنون، بحضور 250 معالجاً، وحظي بتصفيق دام عشر دقائق. كُتب النص بالإنجليزية ليخاطب جمهورًا لا يعرف الكثير عن واقع نسائنا، ما جعل قصص الأسر والنجاة من داعش تُحدث صدمة لديهم.
العرض مبني على قصص حقيقية لنساء لبنانيات، سوريات، وفلسطينيات، جُمعت خلال برامج علاج بالفن نُفّذت في لبنان والأردن. لا يقدّم رواية واحدة بل دمجًا لعدة شهادات حيّة، تُنسج في نص مسرحي واحد.
موعد العرض
في لبنان، يُعرض «قصص مريم» هذا العام في 31 تموز، و1 و2 آب في «استوديو لبن» – الصنايع، زسكو هاوس السبيرز عبر الرقم الموجود على وسائل التواصل. العمل من إنتاج «لبن» من دون رعاية رسمية، ويأمل فريقه في عرضه خارج لبنان إذا توفر التمويل. العرض يتطرق إلى المجاعة كسلاح في الحرب، ويضيء على غزة كجزء من جرح جماعي أكبر.”
تضيف ورداني ” القصص لم تُعرض حرفيًا، بل تم دمج أجزاء حقيقية من عدة روايات نسائية ضمن شخصيات مركبة، كل شخصية تمثل ما لا يقل عن عشر نساء، والهدف هو توثيق الواقع، لا تهذيبه أو تجميله”.
وتضيف ورداني“العرض مساحة للتفريغ، المواجهة، والتوثيق الفني لذاكرة نسوية معذّبة ومقاوِمة. نحن لا نمنح الصوت للنساء، بل نخلق منصة ليسمع العالم أصواتهن”.
الوجع بالأداء… والشفاء بالمسرح
المسرح هنا ليس ترفًا فنيًا، بل فعل مواجهة. النص مكتوب بلغة شعريّة تقاطعت مع أغانٍ تراثية لبنانية ومصرية مثل “المعبد” لزياد الأحمدية، إلى جانب مقاطع مؤثرة كأغنية “خذوا مني عذريتي”، التي أدّتها المغنية السورية ليندا بيطار في فيديو صامت كان قد مُنع في فترات سابقة. وتُعرض في أحد المشاهد قصيدة “يا ظلم السجن” التي وُجدت منقوشة على جدار معتقل، ربما في لبنان أو فلسطين.
الإضاءة في العرض حادة حينًا ومطفأة حينًا آخر، في تناغم مقصود مع فصول الذاكرة والوعي. أمّا الديكور، فرغم بساطته، يؤدي دورًا دراميًا حاسمًا في رسم فضاءات مشتركة بين السجن والمخيم والميناء والمنزل المهدوم.
دردشة مع الممثلات الثلاث: “نحمل القصص في جسدنا وصوتنا”
بعد العرض، كانت لنا وقفة قصيرة مع الممثلات الثلاث: ميرنا الجردي، فرح كردي، وغالية صعب، اللواتي أكدن أن التجربة لا تشبه أي عمل مسرحي تقليدي.
تقول غالية صعب “ القصص اللي قدّمناها من لحم ودم. حسّيت إني عم بعطي صوت لبنت، أم، أخت… ممكن تكون رفيقتي أو أنا”.
توضح فرح كردي“اشتغلنا بجسمنا، بصوتنا، وحتى بصمتنا”.
وتعلق يرنا الجردي“شخصيًا، ما فيني أترك الدور على الخشبة. القصة بتضل معي بعد العرض. صارت جزء منّي”.
“قصص مريم” ليست فقط عرضًا مسرحيًا. هي شهادة، وثيقة، وصلاة بصوت النساء العربيات اللواتي ما زلن يرفعن رؤوسهن رغم كل العواصف.
نساءٌ… ملونات بكل تدرجات الغضب.
ويلكن من غضبهن
[email protected]








