
إكرام صعب
ضمن نشاطات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، أقيمت ندوة ثقافية مميزة بعنوان “نصف قرن على وفاة أم كلثوم”، استحضرت سيرة وحضور كوكب الشرق في الوجدان العربي، وسلطت الضوء على تراثها الغنائي والرمزي الذي تجاوز حدود الزمان والمكان.
حضر الندوة الرئيس فؤاد السنيورة، ورئيسة النادي الثقافي العربي السيدة سلوى السنيورة بعاصيري ، إلى جانب حشد من المثقفين والاعلاميين والفنانين والمهتمين بالتراث الموسيقي العربي.
بختي
استهلت الندوة بكلمة للناشر والكاتب سليمان بختي تحدث فيها عن محطات خاصة بام كلثوم
سليمان بختي: صوت أرّخ لزمانه ومكانه
بختي، وصف أم كلثوم بأنها “صوت أرّخ لزمانه ومكانه ولا يزال يتربع على عرش الفن العربي”، معتبرًا إياها أول مطربة عربية حملت مشروعًا تغييريًا ثقافيًا لجيلها، وأنها شكّلت بأغنياتها وجدانًا جمعيًا عابراً للأجيال والحدود.
وأشار إلى وعيها الفني العميق باختيار الشعراء والملحنين، وتكوينها الصوفي الذي بدأ بإنشاد المدائح النبوية وتطور مع انضمام محمد القصبجي، الذي كان له دور كبير في تطوير أدائها وصورتها، حيث نصحها بارتداء الفستان على المسرح، ما شكّل نقلة نوعية في مسيرتها.
وأضاف بختي أن أم كلثوم خاضت تجربة التلحين بنفسها، ما يدل على تنوع مواهبها وشغفها بالتجديد. واعتبر أن قيمتها تتجاوز كونها مطربة، إذ مثلت رمزًا ثقافيًا وفنيًا ساهم في تشكيل الوعي العربي الحديث.
فكتور سحاب: أم كلثوم هوية العرب ومشروع توثيقي ضخم
ثم تحدث بعده الباحث والكاتب الموسيقي الدكتور فكتور سحاب، مشيرًا إلى أن أم كلثوم لم تكن مجرد ظاهرة فنية، بل كانت من الوجوه القليلة التي ساهمت في حياكة العيش المشترك العربي. وقال:“أم كلثوم هي بطاقة هوية العرب، ومعها رافقنا محمد عبد الوهاب وآخرون صنعوا تراثًا خالدًا.”
سرد سحاب جانبًا من تجربة التوثيق التي قادها مع شقيقه الياس سحاب في إعداد موسوعة ضخمة من ثلاثة مجلدات عن أم كلثوم، موضحًا أن المجلد الأول من تأليف الياس، ويتناول السيرة الفنية والشخصية، فيما تولى فكتور تأليف المجلدين الثاني والثالث، متضمنين كلمات الأغاني وتحليلها، وأشار إلى أن الموسوعة نالت جائزتين عالميتين لأفضل تصميم عام 2005 من لندن والولايات المتحدة، وهي متوفرة اليوم لدى دار نلسن للنشر.
وكشف سحاب عن العثور على خمسة تسجيلات نادرة لأغنيات مفقودة من تراث أم كلثوم، تم استردادها بفضل جهود بحث مضنية شارك فيها أصدقاء وهاوٍ كويتي يُدعى عبد الله السايغ، إلى جانب تعاون مع مجموعة أبو ظبي للثقافة والفنون التي احتضنت مكتبة الباحث العراقي الراحل مصطفى المدرّس.
وختم سحاب كلمته بنداء إلى جميع المهتمين والجهات الثقافية لإنقاذ ما تبقى من التراث الكلثومي، إذ لا تزال ٣٧ أغنية من أصل ٣٥٠ مفقودة، وهي نسبة وصفها بأنها “غير مقبولة”، داعيًا إلى تصنيف التراث الموسيقي العربي وحفظه للأجيال القادمة.
مارلين يونس: أم كلثوم كيان جمالي وفلسفي يتجاوز الزمن
المداخلة الثالثة كانت للدكتورة مارلين يونس، المؤلفة الموسيقية وأستاذة الفلسفة الموسيقية، التي قدّمت قراءة فلسفية عميقة في أثر أم كلثوم. قالت:“الحديث عن أم كلثوم هو الإمكان العام لوجودها الضروري. هو مقاومة للفناء وضياع المعنى.”
وأكدت أن أم كلثوم تمثّل الوعي المُغنّى والساحر، القادر على إعادة تشكيل الواقع وتقديم إجابات فنية على أسئلة لا حلّ لها. وأضافت:
“فنها تجسيد لـ ‘الوثبة الحية’ – ثورة صوتية وجمالية تتجدّد في كل مرة.”
وأشارت يونس إلى أنه مع أم كلثوم لا نكون في حالة سماع، بل حالة إصغاء، تنتقل بنا من المغنّى إلى المعنى، ومن اللحظة إلى الذكرى، ومن الصوت إلى عمق الزمان.
وأضافت:“تجربة الإصغاء لأم كلثوم ليست استهلاكًا للطرب بل سكنى داخل المعنى، صوتها يُعالج المشاعر، يُجمّل الأحزان، ويعيد تشكيل الذاكرة.”
كما توقفت عند جمالية الزخرفة في صوتها، مستعرضة مثالاً من أداءها لكلمات مثل “الجلال” و”وحسيبك للزمن” و”الأيام” في أغنية الأطلال، حيث يظهر التوازن بين العاطفة والسيطرة التقنية العالية.
واعتبرت أن فن أم كلثوم يحمي المستمع من الأحادية، ويمنحه فسحة للتأمل والتعددية الداخلية.
خاتمة موسيقية ساحرة بصوت مارلين
اختُتمت الندوة بأداء حيّ مؤثّر للدكتورة مارلين يونس، التي غنّت مقطعًا من إحدى روائع أم كلثوم، فكان ختامًا يليق بالأمسية، حيث تمازجت المعرفة بالصوت، والتحليل بالإحساس، والتاريخ بالمستقبل.