خاص –nextlb
بهدوء وفرح يخطو نحو الثمانين ، قضى أكثر من خمسة عقود من عمره في هذا المحترف الصغير المعجوق بالأعواد في أحد زواريب الطريق الجديدة ، لا زال العواد علي الحلاق البيروتي الأصيل يعيش في الزمن الماضي ، فقد توقف الزمن معه عند أيام عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وسيد مكاوي وصباح فخري
يستقبلك بوجه بشوش وبضحكة من القلب ” تفضل جار نشرب فنجان قهوة ” ولسان حاله يقول ” الأيام الجميلة الغابرة لن تتكرر ” ويضيف ” أنا هنا على هذه الكرسي منذ أكثر من 50 سنة ، تعلمت مهنة صناعة العود وأتقنتها ، وصنعت أعواداً كثيرة لهواة ولمحترفين خلال مسيرة حياتي الطويلة “.
ويتابع بأسى ” توقفت حالياً عن صناعة العود ، لم تعد هذه المهنة مطلوبة .. هي في طريقها الى الزوال على الأرجح ، لم تترك المصانع الحديثة مجالاً لليد المحترفة المتقنة ، صار العود – هذه الآلة الشرقية التاريخية – غالباً ما يأتينا من الخارج ، من الصين والهند ، وأنا حالياً أقوم فقط بصيانة الآلات الوترية ، من عود وقانون وكمنجة وبتصليح ما يتعطل منها فقط لبعض الهواة والمحترفين من أبناء منطقة الطريق الجديدة وبيروت “.
ويتابع “كنا نصنع العود في الغالب من خشب الورد والجوز ونحفره يدوياً ، كانت لكل عود نصنعه ميزة خاصة ورنة فريدة و ” دوزان” مختلف ، والعود الحالي كما كل الآلات الوترية الحديثة صار يصنع في قوالب جاهزة تأتينا من الخارج ، وصارت أوتاره تصنع من خيوط النايلون “.
يدوزن الحلاق عوده بأنامله الرشيقة ، ويدندن بصوت شجي أغان لمحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وسط جو تاريخي أثري ، تزينه صور لفنانين رحلوا منذ عقود عديدة ، عمرها في الجدار الأثري أكثر من خمسة عقود ، منها واحدة لفريد الأطرش بالأبيض والأسود تم تلوينها يدوياً في سبعينيات القرن الماضي ، وصور عديدة لفنانين رحلوا منذ زمن ، وآيات قرآنية في براويز سميكة محفورة في الخشب منذ الستينيات ، وحكم تعلمها من تجارب الحياة ، وخزانة زجاجية جمع فيها صوره منذ بداية عمله في هذا المحترف ، ومعها قصاصات صحف صارت صفراء عليها كلمات تلاشت أحرفها مع الزمن ، تضم مقالات كتبت عنه في الصحافة اللبنانية والعربية على مدار عقود خمسة .
خلف المحترف الثمانيني رفوف تحتضن أعواداً مستعملة للبيع وللصيانة ، الحلاق في الموسيقى ناقد فني ذواقة ، محب لفريد الأطرش وأستاذيته في العزف على العود ، أحاوره مشاكساً “فريد الأطرش مطرب جيد وفنان ولكنه فنان نواح شديد الندب والبكاء ”
يرفض الحلاق كلامي بحدة وتنقلب ضحكته جدية .. يشرح لي أستاذية اللحن والعود لدى فريد الأطرش التي توازي عنده أستاذية عبد الوهاب ويحكي بإعجاب شديد عن صوت أسمهان ، ويدندن على العود تحبباً إحدى أغنيات عبد الوهاب .. ويسلطن عليها ” يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك “.
الحلاق إبن الطريق الجديدة لم يغادرها إلا نادراً ، سافر أولاده الى عالم الإغتراب لكسب العيش ، ورفض هو اللحاق بهم وترك لبنان رغم إلحاحهم ، وينتظر عودتهم سنوياً في الإجازات والأعياد .
منذ سنوات خلت ، كان يدرس العزف على العود لبعض الهواة ، ولكن هذه المهنة لم تعد ذات جدوى في خضم الأزمة الإقتصادية ، فالمزاج لم يعد مزاج طرب وفرح بل صار وقت هم وغم وضيق ، وتفتيش عن لقمة العيش التي صارت عزيزة كما يقول.
أودع صديقي العواد وجاري القديم منذ أيام الجامعة على أمل اللقاء القريب لنقلب معاً صفحات من الزمن الجميل الذي لن يتكرر للأسف .!!
عدسة nextlb.com