“نقطة انهيار” هو عنوان معرض الفنان هنيبعل سروجي الذي يقيمه حالياً في غاليري جانين ربيز الروشة ( يستمر حتى 24 أيار مايو)، ويضم أعمالاً تعود إلى مرحلة التسعينيات من القرن العشرين، اكتشفها لدى زيارته لمحترفه الباريسي، ليجد فجأة ذكريات الماضي تؤوب إليه كما تؤوب الطيور إلى أشجارها.
قد يكون العنوان صادماً لـ”فنان الغيوم” المقرون بالشفافية في التعبير عن معالم الطبيعة وعناصرها وأسرارها، غير أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمرحلة خروج لبنان من الحرب إلى السلم الأهلي.
تلك المرحلة التي حمل سروجي تداعياتها، خصوصاً بعد المعاناة التي عاشها ما بين الهجرة من صيدا إلى كندا ثم الانتقال للعيش في باريس قبل الرجوع للاستقرار في بيروت. فقد كان في الثامنة عشرة من عمره حين ركب البحر مهاجراً مع عائلته إلى الأقاصي الباردة البعيدة هرباً من حمم الحرب اللبنانية، وظلّ هذا الفراق يرسم في عينيه ذكريات آخر الصور لليابسة والبحر والأفق والفضاء وتلافيف الغيوم.
كمن يقف على هوة سحيقة، ليرسم فزعته من الدوّار الذي ولد في داخله من الطابع الغامض للعمق، كذلك ذكريات الماضي المؤلم في ارتداداته النفسّية حين تلوح من جديد. وفي سياق هذا الانعطاف نحو الماضي، ثمة مواجهة تتجلى في عرض تجارب غير معروفة، لكنها تحمل شرارات الارتجال والاستذكار والاختبار في جذب ما يتراءى من هيئات الطبيعة إلى حقول الغياب.
يقول سروجي إن أعماله “منسوجة بالذكريات، وهي تعكس حالة زمنية معينة يتم فيها احتواء الوقت وإطالة أمده، فهي تجمع رؤية مختلفة للفضاء والذكريات والحالات الذهنية لذلك الزمن”.
لعل تلك المرحلة أكثر عاطفة وامتلاءً وعفوية وارتباطاً بالأسئلة التي أخذ يطرحها الفنان على نفسه من خلال الفن، هي الأسئلة التي تعرض لأسباب الحرب، كيف اندلعت ولماذا؟ وكيف تنتهي بلا نقاش ولا مراجعة ولا نقد، كأن شيئاً لم يكن!
كيف يمكن تناسي كل ذلك الوجع في الوقت الذي علينا أن نلتقط الأشياء التي سقطت منّا ونعيد ترميمها لكي نسترد أنفسنا من الضياع؟ يضاف إلى ذلك أن مرحلة التسعينات قد حددت ميول هنيبعل سروجي في خضم أساليب التجريد، وتقاطعاتها ما بين مدرسة باريس ومدرسة نيويورك، ما دفعه للبحث عن الروحانية الشرق أقصوية، من خلال الارتماء في استكشاف الطاقات الكامنة في عالم اللون، وعلاقته بنظام الطبيعة وموجوداتها وإشاراتها وضبابها ولمعاناتها، على أنها طبيعة كونية متصلة بعمق الوجود.
الفرار من الحقيقية إلى اللعب
ما بين الصخب والهدوء تلهث الريشة لالتقاط الدفق الأول من تعبيراتها المجازية عن العالم المرئي، لكنها في الحقيقة تسعى لكي تدوّن ما يعتري اللاوعي من مشاعر متفاقمة في تأججّها وانفعالاتها على طريقة الأكشن الأميركي، ولكن بقلب ينبض بالحب والعزلة وعصب اليد التي تسابق العين في الخربشة، واللعب والفرار من الحقيقة إلى هامش الوقت بلا رقابة.
إنه النبض الذي يوجّه التآليف العمودية غالباً في الأعمال المنفّذة بالألوان الزيتية، نحو الفراغ العشوائي الذي يصير قاعدة، لمتعة الريشة في إضفاء النغمات اللونية المتدرجة بلا تناقضات تُذكر.
في الرسوم الورقية تتراءى تجارب الفنان بأكثر من تقنية لونية وهي تقيم العلاقة ما بين سحابات الألوان القاتمة الحِبرية التي تطاول ألسنتها الفراغ وتمتد في ضربة واحدة ثم تلتف مثل الأفاعي في لعب ومناورات شبيهة برعونة رسوم فناني الكوبرا.
في هذا الفضاء الفسيح الفارغ تلعب الإشارات المتفرّقة مثل أجنحة في حقول من خطوط وبقع ألوان.
يقول الفنان إن عمله: “يستكشف بأسلوب تجريدي تأثيرات الأوقات المضطربة، حيث يتم التعرف على كل عمل فني ضمن هيمنة لونية مختلفة، وفحص العلاقة الحميمة بين الأشياء، والآثار التي خلفها الصراع، والحقول والأسطح الملونة المفعمة بالأمل”. هكذا يرسم هنيبعل سروجي عوالم متجانسة بلا حدود، سواء ظهرت هذه المناظر مثل جذوع أشجار أو كائنات غامضة أو غصون أو فروع نبات مُلصّقة على جسم غريب. كل ذلك مجرد احتمالات وظنون لأشياء غير مؤكدة.
التجريد بمعنى الأثير
ثمة إيقاعات وخربشات وتبصيمات شبيهة ببصمات الأصابع تعوم في مناخات تتسم بالخفّة وكأنها بلا ثقل، تتجرد من أثوابها اللونية إلى التقشف الأقلويّ بمعنى الأثير، ومناظر لغابات ونباتات آتية من طبيعة استوائية أفريقية، وإشارات طفولية في حقول من عالم شذرات متفرقة.
إنها النقاط الصغيرة الدائرية الشكل الدالة إلى الانهيار والسقوط والانكسار، وهي أيضاً الشذرات الناتجة من انفجارات الأجسام وتبعثرها في الفضاء، التي مهدت لاحقاً لظهور مرحلة “الثغرات” Particules في مسار هنيبعل سروجي. فالنقاط التي كان يرسمها يدوياً بفوهة أنبوب اللون، صارت حروقاً بالنار ظاهرة آثارها على وجه اللوحة.
كيف يمكن التقاط الغيوم الشاردة في ضربة ريشة، كيف يمكن اختصار حياة شجرة في بضعة ألوان غائمة ومائجة، وكيف يمكن تثبيت حركة الشكل المتحرك لالتقاط أنفاسه قبل أن يتكوّن أو حين يصل إلى حالة الامّحاء؟
لا يلتقط هنيبعل المشهد في الواقع بل يلتقط ما بقي منه، يلتقط شعوره وحيرته ورؤيته الخاطفة ويضع حركة لمسار ريشته وما بقي لها من همسات.
في أعماله ليست الأشجار الواقفة على وهن سوى قامات ذات رؤوس مبهمة، إنها ليست الأشجار بل التفافات جذوعها المعمّرة وفروعها وأغصانها العالية التي تكاد تلامس الغيوم، لعلها تشير إلى التجذر اللاواعي في تربة الوطن البعيد. وكأن هناك انحرافاً بين الوهم والحقيقة، وتعارضاً بين المحتوى والشكل، لكنه يؤكد الشَّبَه الروحي ما بين قديم الفنان وحديثه، وهي العلاقة بين الأرض والفضاء والشجرة والغيوم. والأعمال هي تجسيد للطفرات التي تعمل في حركة دائمة مثل السحب، مثل الأرض ودينامية نظامها، مثل التماهي ما بين انبعاثات الأبخرة من الأشجار وتكاوين السحب، في تشكيل ما يشبه الغلاف الحرجيّ.
“الشجرة أو الجذر يُلهمان كما يقال في الفلسفة الصينية صورة حزينة للفكر”، غير أن تلك الأعمال المتأتية من عمر الشجرة وألوان الأرض وأحلام الطفولة، تبقى ماثلة كي تعيد ربط الكيانات المتشذرمة في مراحل هنيبعل سروجي، مع “موتيفات” ما بعد الحداثة والمعاصرة في التعبير عن تأملاته في الزمن والفضاء وذكريات الحروب وحروقها على جلد الأيام.
المصدر : النهار العربي – مهى سلطان