تحقق سينما الأكشن الكثير من النجاح في العالم، وهي تمثل شكلا سينمائيا وجد في مرحلة مبكرة من تاريخ فن السينما في العالم، حيث تبلورت أولى ملامحها في زمن السينما الصامتة مع المخرج والممثل الأميركي الشهير باستير كوتون الذي كان متميزا بصلابة ملامح وجهه وأسلوبه الذي يميل إلى الكوميديا.
وغابت سينماه لدى دخول الصوت إليها، ثم ظهرت سينما ألفريد هيتشكوك التي حملت ملامح التشويق والأكشن. وفي فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ظهرت سلسلة العميل 007 جيمس بوند الذي حقق شهرة عالمية واسعة وضعته في أعلى تصنيف أفلام الأكشن، وكذلك وجدت أفلام الكاوبوي والقتال فظهرت أفلام طرزان وبروس لي. وفي الزمن الأحدث وجدت أفلام “القيامة الآن” و”العرّاب” و”حدث ذات مرة في أميركا” والكثير من الأفلام العالمية. كما غدت عناوين أفلام الأكشن متجذرة في ذاكرة الناس، مثل “سارقي التابوت الضائع” و”اقتل بيل” و”موت قاسٍ” و”دخول التنين” وغيرها.
عربياً لم تهتم السينما عموما بأفلام الأكشن، نظرا لصعوبة تنفيذها واحتياجها إلى فريق فني وتقني عالي المستوى لم تكن السينما العربية قادرة على تأمينه، رغم شغف الجمهور العربي بها في قسم كبير منه، لذلك اتجه جمهور سينما الأكشن إلى متابعة السينما العالمية خاصة الأميركية والشرق – آسيوية. لكن الملاحظ أن السينما العربية بدأت بعد فترة من رسوخها بتقديم إنتاجات في سينما الأكشن وقدمت في السينما العربية وخاصة في مصر محاولات متقدمة، منها “الجزيرة” و”أدرينالين” و”الوتر” و”هروب اضطراري” و”الخلية” وغيرها من الأفلام التي أسهمت في ظهور أسماء لامعة في سينما الأكشن العربية.
عن “الهيبة”
لم تغب حالة الأكشن عن السينما في لبنان، حيث وجدت في بعض الأفلام التي يمكن تصنيفها في خانة الأفلام الروائية أو سينما الحروب. لكن سينما الأكشن واضحة المعالم التي يتشكل الفيلم بها كاملا لم تظهر في الأعمال اللبنانية وإن كانت الدراما التلفزيونية فيه قد خطت نحو هذا الشكل في العديد من الأعمال العربية المشتركة، منها “العراب” و”الهيبة” و”بارانويا”.
وفي فيلم “الهيبة” تبدأ شركة الصباح، المعروفة بتاريخها السينمائي في لبنان، أولى خطواتها على خارطة سينما الأكشن من خلال فيلم “الهيبة” الذي قدمته حديثا والمرتبط شكلا وموضوعا بمسلسلها التلفزيوني الشهير الذي يحمل الاسم ذاته.
وتحكم مسألة إنجاز فيلم “الهيبة” عملية غريبة، فقد انطلق بمشروع دراما تلفزيونية كتبه هوزان عكو ثم باسم السلكا وأخرجه سامر برقاوي، وهم الآتون من المشهد الفني في سوريا برفقة عدد من أبطال العمل من أهمهم منى واصف وتيم حسن. وحقق المسلسل نجاحا جماهيريا كبيرا على المستوى العربي، واستمر لخمسة أجزاء، ليقرر صناع العمل تقديم فيلم سينمائي يحمل العنوان ذاته والتوجه الفني والفكري نفسه، إنما في إطار سينمائي مختلف.
هذا الشكل من الإنتاج السينمائي أمّن للفيلم إعلانا فنيا وتجاريا هائلا، حيث استفاد من النجاح والتفاعل الجماهيري الواسع. وما عزز هذا الشأن قيام الجهة الإنتاجية -وهي المختصة تاريخيا بتوزيع الأفلام السينمائية العالمية والعربية- بتأمين شبكة عروض سينمائية له شملت العالم العربي والولايات المتحدة وأستراليا وكندا وأوروبا، وسبقت كل ذلك مجموعة من المؤتمرات الصحافية التي عقدت في أكثر من عاصمة عربية، حقق بها الفيلم تفاعلا جماهيريا طاغيا مع الجمهور فبات حالة فنية وإعلامية غير مسبوقة.
ويقدم فيلم “الهيبة” شكلا نمطيا في تناوله لموضوع الجريمة والتشويق وحالة الأكشن، فبطل الفيلم جبل (تيم حسن) يكتشف أن قاتل أبيه ناظم العالي (الختيار) رفيق علي أحمد لم يمت وهو يعيش في بلغاريا متخفيا منذ سبعة عشر عاما ويمتهمن مختلف أنواع الجريمة، الأمر الذي يصدم مجتمع قريته وخاصة أم جبل (منى واصف) التي توبخ ابنها وتطالبه بالثأر لمقتل أبيه، فيعاهدها أمام أهل القرية على أن يحقق لها ما تريد، وتبدأ رحلة جبل وأعوانه لتحقيق هدفهم وهو النيل من الختيار.
وتقدم أحداث الفيلم حالة من الفضول والإثارة لدى الجمهور. ويحسب لـ”الهيبة”، باعتباره فيلم أكشن، أن أحداثه تضمنت حالات من التشويق حتى اللحظات الأخيرة منه، فعلى سبيل المثال يطلب الختيار أن يطلق أحد النار عليه من جموع أهل القرية والمشاهد لا يعرف من سيقوم بفعل ذلك حتى لحظة انكشاف الحقيقة.
ويُبِين الفيلم عن جهد واضح على المستوى التقني، وقد ظهر ذلك جليا في نوعية الصورة وكذلك في مشاهد القتال وتنفيذها، خاصة تلك التي كانت في حالات الاشتباك اليدوي. واحتوى العمل مشاهد من النزاعات النارية التي غالبا ما يفضلها جمهور الأكشن، ونفذت بطريقة جيدة وإن أصابها التراخي الزمني أحيانا فكانت أطول مما يفرضه وجود إيقاع مونتاجي سريع في الفيلم يشد الجمهور بشكل قوي لمتابعة مجرياته.
ممثلون محترفون
يظهر جبل في فيلم “الهيبة” شخصية هادئة وحادة الطباع، يقدم على القيام بأي فعل في سبيل تحقيق أهدافه. كان جيدا في ظهور تيم أنه بالتعاون مع المخرج كسر نمطية الصورة المتكررة دائما لرجل عصابات إلى حد بعيد، فجبل في الفيلم كما في المسلسل أيضا شخص طبيعي يتصرف بشكل تلقائي. ولا توجد معالم خاصة تدل على أنه زعيم عصابة؛ فلا حواجب كثة ولا نظرات خاصة ولا صوت عريضا غليظا ولا قلائد أو وشوم خاصة على جسده. وأمسك تيم حسن بإيقاع الشخصية بهدوء وثقة وحافظ على التصاعد الدرامي السلس وصولا إلى ذرى درامية ساخنة.
كذلك قدم الممثل اللبناني رفيق علي أحمد جهدا نادرا. وكان واضحا الهدوء الذي يعمل به، والبطء المبرر الذي قدم به الشخصية، وكان واضحا حضور الحالة المسرحية التي يأتي منها في تأدية الدور. وقدم الممثل شخصية محورية في الفيلم فيها الكثير من التباينات، ولعله الشخصية التي قدمت للفيلم طاقته القصوى في تقديم المشوق والمثير، فكان حدث نجاته من محاولة القتل محركا أساسيا لأحداث الفيلم، ومن ثم خطفه وبعد ذلك نجاته مرة ثانية ثم وصوله إلى الهيبة ومصيره المجهول.
وكان لتقديم الشخصية متحدثة بالإنجليزية والعربية حضور معزز لقوتها في الفيلم. كما كان وجود شخصية أم جبل التي أدتها الفنانة منى واصف صمام أمان لقوة أحداث الفيلم؛ فمنى واصف فنانة تجيد تقديم أي دور تجسده، لكنها في أدوار القوة تكون أكثر قدرة على إقناع الجمهور بأن ثمة عملا هاما سيقدم.
ثقل شخصية أم جبل والأهم شخصية واصف التي جسدتها جعلا من وجودها عاملا حاسما في تقديم حالة فنية كبرى
لم تكن مساحة دور أم جبل كبيرة في الفيلم على عكس المسلسل، فظهرت منى واصف في أوله وآخره وبعض اللقطات بينهما، لكن ثقل شخصية أم جبل والأهم شخصية واصف التي جسدتها جعلا من وجودها عاملا حاسما في تقديم حالة فنية كبرى.
في جانب آخر يظهر دور الفتاة اللبنانية التي يتقاطع مصيرها مع جبل (زينة مكي)؛ فدورها صغير المساحة وقليل الفعل الدرامي، وكان بالإمكان تفعيل دورها ليكون أكثر حيوية في أحداث الفيلم، إذ كانت شخصية الفتاة مجرد فعل طارئ وعارض يلتقي بالبطل في أكثر من تقاطع، حتى التقيا في فندق في إسطنبول وقامت بمساعدته طبيا.
ولا شك أن الدور يمكن أن يؤدى من قبل أي ممثلة، ولا شك أيضا أن قدرات زينة مكي كان بالإمكان أن تكون أقوى وأوضح لو ثقلت الشخصية بشكل يجعلها أكثر حضورا في مسارات الفيلم الحكائية.
ينطلق فيلم “الهيبة” من محاولة استرجاع قيمة السينما كحدث اجتماعي يعيشه الناس، ويمثل حضورا في تفاصيل يومياتهم. ويؤكد سامر برقاوي مخرج الفيلم ذلك بقوله “كان هاجسي تقديم حالة سينمائية تذكرنا بالماضي السينمائي الذي كنا نعيشه. فالسينما كانت حالة موجودة بحضور قوي والناس يذهبون إلى مشاهدتها في دور السينما وليس على الشاشات كما هو الآن. هذا الهدف كان موجودا لدى الشركة المنتجة أيضا، وهذا ما خلق لدينا الرغبة معا في إنتاج هذا الفيلم”. ويتابع “السينما في سبعينات القرن العشرين وما بعدها كانت حالة فنية واضحة المعالم، سنحاول أن نعود بها إلى الناس من خلال هذا الفيلم”.
من جانبها أكدت الممثلة منى واصف أن الفيلم بالنسبة إليها “نجاح جماهيري جاء في قمة الجهد الذي بذل عبر خمسة مواسم لمسلسل ‘الهيبة’، أنا سعيدة جدا بتلقي الجمهور له على هذا الشكل الحماسي؛ في فيلم ‘الهيبة’ تحضر المرأة القوية الصامدة في وجه التحديات”.
رسالة سياسية
أما الممثل اللبناني رفيق علي أحمد فيرى أن “الجهد الحقيقي الفعال سيصل بالمنتج إلى الجمهور بشكل صحيح”. ويوضح “وصلتني خلال الأيام السابقة الكثير من وجهات النظر عن الفيلم، وكانت في الأغلب إيجابية، وهذا ما يسرّني ويجعلني أشعر بالغبطة العارمة. منذ زمن أتمنى أن تقدم السينما عملا كبيرا وجماهيريا وأرجو أن يحقق ‘الهيبة’ ذلك”.
السينما حالة فنية لها خصوصية
بطل العمل تيم حسن قال في تصريحاته “أحلم دائما بتقديم فيلم سينمائي يقدم إلى الجمهور العربي حالة مختلفة، فالسينما حالة فنية لها خصوصية تستطيع تقديم المختلف، في السينما يمكن طرح المقولات بطريقة مكثفة والحالة البصرية فيها تقدم عالما ساحرا وجميلا”.
وقد وفّر تصوير الفيلم في مدينة إسطنبول -وهي المدينة التي تجمع الشرق بالغرب وتحفل بالبيئة المعمارية والطبيعية وفيها مواطن جمال وتمايز كبرى- للمخرج مجالا واسعا لتقديم لقطات سينمائية متعددة ومستوحاة من مناطق طبيعية ومن معمار المدينة، فظهرت بحيراتها الشهيرة ومنازلها قرميدية السقوف وحماماتها العامة ودور السكن الشعبية التي تجمع مهاجري الأرض.
ومما يحسب لمنتجي الفيلم وجود مشاركات أجنبية جاذبة للجمهور، منها مشاركة ملكة جمال أذربيجان ناتالي سوكوليفسكايا التي جسدت دور الممرضة وغيرت مسار الأحداث في الفيلم وكادت تصل بالنتائج إلى ضفة مقابلة. وكان لمشاركة الفنان التركي كنان جوبان دور حاسم في إكساب العمل المزيد من التشويق، فالممثل معروف لدى الجمهور العربي من خلال مشاركته في مسلسل “وادي الذئاب” بشخصية عبدالحي وكان يدا يمنى لبطله مراد علمدار. وظهر في الفيلم بشخصية ذات ميول وسلوكيات إجرامية، ورغم أنه لم ينطق بأي كلمة فقد كان موظفا لقتل الختيار ثم وظف ليكون حارسا له.
ويتقاطع الفيلم في بعده الفكري الأعمق مع الحالة السياسية والحضارية والاجتماعية التي يعيشها العالم العربي راهنا؛ ففي خلفية كل ما يجري في فضاء الفيلم، تظهر نية سرقة آثار المنطقة وبيعها في الأسواق العالمية. وهو ما جاء صراحة على لسان أحد كبار زعماء العصابات الذي يطالب الختيار بآثار بوابة تدمر في سوريا، في إشارة خفية إلى تعاون عصابات تنظيم داعش وتهريب الآثار وزعماء المافيا على القيام بهذا النهب المبرمج والقاتل والمغتصب لحضارة المنطقة بأكملها.
كذلك تحضر السياسة من خلال استعراض الفيلم لبعض تفاصيل ظروف حياة اللاجئين الذين عانوا حالات القهر والظلم من قبل عناصر الشرطة في بلدان العبور وفقدوا أدنى حماية إنسانية فروا بحثا عنها، بعد معاناتهم لسنوات من الواقع البائس في بلدانهم، معاناة خلقت في داخلهم طمعا في الوصول إلى أماكن أكثر سلاما.
وسيقدم الفيلم إلى الجمهور العربي خلال المرحلة القادمة، وهو من إنتاج شركة سيدرز آرت بروداكشن (الصبّاح). كتبه للسينما عصام أبوخالد وسعيد سرحان وسامر برقاوي، وقام بإخراجه سامر برقاوي، وشارك في التمثيل فيه تيم حسن ومنى واصف ورفيق علي أحمد وناظم عيسى ومحمد عقيل وزينة مكي وسعيد سرحان ومو لطوف وكنان جوبان.
المصدر : بيروت أوبزرفر