ريم بنا هربت خلسة من بين الورد المسجّى وجرت كغزالة إلى الحياة الجميلة..بقلم فاطمة حوحو

المغرب_ فاطمة حوحو

“مع كل نَفَس وجع… فكيف لا تخرج الأغاني ثائرة”…
هذا ما قالته الفنانة الفلسطينية ريم بنا التي رحلت فجر يوم السبت 25 مارس في أحد مستشفيات ألمانيا، بعد أن هزمها مرض السرطان الذي عانت منه منذ تسع سنوات على مرحلتين، بداية في الثدي ثم الانتشار، حتى أنه أفقدها صوتها منذ عامين، لم يعد بإمكانها الغناء، ضعف الصوت لكنه ظل عاليا، هي التي حملت هموم فلسطين وأفراحها، عاشقة التراث التي ارتدت في حفلاتها اللباس الشعبي الفلسطيني المطرز، وتزينت بالفضة والخرز الأزرق والأحمر وحملت علم وطنها والكوفية أينما حلت على مسارح العالم.
كانت صوت كل الضعفاء والثائرين، وفية لثورات الشعوب وآمالها، لبلدها فلسطين الثورة والحلم، ولتونس الخضراء، ولمصر التي منعتها من الدخول إليها بسبب موقفها المتضامن مع الثورة السورية وللقضايا العادلة في العالم العربي، نذرت صوتها للحب والجمال، ثائرة، نقية، دافئة، صادقة وفنانة حقيقية، حملت فلسطين في صوتها وأغانيها، ولم تنس الثورة اليتيمة فكان لها مع الفنان اللبناني أحمد قعبور أغنية للشعب السوري الذي حلم بالحرية والكرامة “مين”، وأحيت حفلات لدعم أطفال سوريا.
تعتبر ريم من أشهر النساء العربيات المؤثرات في الوطن العربي والعالم، خلال رحلتها الطويلة مع المرض، كانت تأمل ان تتحسن وتتغلب عليه، فلم تمتنع عن أخذ صور لها وهي من دون شعر نتيجة العلاج الكيميائي، شاركت في حملات لدعم مرضى السرطان، وكانت تمدهم بطاقة إيجابية لمواصلة رحلة صمودهم.
تروي الكاتبة ديمة ونوس، ابنة الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، أنه في آخر حوار بينها وبين ريم، كان عن صعوبة العثور على ثمن العلاج. فاقترحت البحث عن متبرع. إلا أنها كتبت لها: “لا، ديمة، أنا التي يجب أن أعمل شيئا لمساعدة اللاجئين السوريين، أنا أدبر أمور نفسي، أنا مقصرة تجاهكم كثيرا، لكن صدقيني، صحتي تعيق حياتي”.
في آخر تدوينة لها على “الفيس بوك” كتبت ريم: “بالأمس كنت أحاول تخفيف وطأة هذه المعاناة القاسية على أولادي. فكان علي أن أخترع سيناريو، فقلت: لا تخافوا، هذا الجسد كقميص رثّ لا يدوم، حين أخلعه، سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق، وأترك الجنازة “وخواريف العزاء” عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام. مراقبة الأخريات الداخلات والروائح المحتقنة، وسأجري كغزالة إلى بيتي، سأطهو وجبة عشاء طيبة، سأرتب البيت وأشعل الشموع، وأنتظر عودتكم في الشرفة كالعادة، أجلس مع فنجان الميرمية، أرقب مرج ابن عامر، وأقول هذه الحياة جميلة، والموت كالتاريخ، فصل مزيّف”.
ولدت ريم في مدينة الناصرة عام 1966، والدتها الشاعرة الفلسطينية زهيرة الصباغ، اشتهرت بالأغاني الوطنية الملتزمة، أصيبت بداء السرطان واضطرت للتوقف عن الغناء، رغم الإعلان في الآونة الأخيرة عن تسجيلها قبل تدهور حالتها ألبوما موسيقيا جديدا، سيرى النور في أبريل المقبل، والألبوم لا يحمل غناءها، إلا أنه يحمل هواجسها وبعض كلماتها، حسب ما أعلنت في الأشهر الأخيرة.
منذ حوالي الأسبوع نشرت عائلتها بيانا حول حالتها الصحية، قالت فيه أن تراجعا طرأ على صحتها أدى إلى تحويلها للمشفى قبل أن تفارق الحياة. لكن المرض هزم الفنانة الكبيرة، فنعتها عائلتها ببيان جاء فيه: “عائلة ريم بنا، والدتها زهيرة وأخوها فراس وأبناؤها بيلسان وأورسالم وقمران، وأصدقاؤها وأحباؤها والشعب الفلسطيني، في كافة أماكن تواجده، ينعون إليكم ببالغ الحزن والأسى رحيل ابنتهم البارّة ومغنية فلسطين الأولى، ريم بنا، متممةً واجباتها الوطنية والإنسانية تجاه شعبها وكل مظلومي العالم”.
كانت ريم مولعة بالغناء منذ طفولتها، وكانت تشارك دائما في المهرجانات والمناسبات الوطنية التي كانت تقام في مسقط رأسها، ويقال إن والدتها أجبرتها والدتها على الغناء والتهاليل. ولهذا تركت الأخيرة أثراً كبيراً عليها، كمناضلات أخريات، مثل: ليلى خالد، جميلة بوحيرد وسناء محيدلي، إلى أن تزامنت مراهقتها مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فتأثرت بالتطورات التي فرضت على الفلسطينيين الرحيل من بيروت.
قدمت ريم الأغاني الفلسطينية التراثية بموسيقى عصرية، وكانت تستقي كلمات أغانيها من التراث الفلسطيني وثقافته. أطلقت ألبومها “جفرا” في العام 1985، وقد اختارت اسمه تيمنًا بالأغنية التراثية الفلسطينية “جفرا”، وفي عام 1986 أطلقت ألبومها الثاني “دموعك يا أمي”. في التسعينات بعد تخرجها من معهد الدراسات العليا في موسكو، سعت إلى إحياء الأغاني الفلسطينية القديمة، فسجلت نسخا جديدة من تلك الأغاني، مساهمة في إحياء التراث الفلسطيني والحفاظ عليه بعدما أضحى طي النسيان.
كتب الناقد أحمد الزعتري في موقع “معازف” منذ أن أطلقت باكورتها “جفرا”، ثم “دموعك يا أمي”، و”الحلم” (بالتعاون مع زوجها الموسيقيّ الأوكرانيّ ليونيد ألكسيينكو الذي تطلقت منه سنة 2010 ولها منه ثلاث اطفال، ومن كلمات الشاعرين توفيق زيّاد وسميح القاسم). وجّهت ريم إنتاجها لـ “خدمة القضيّة الفلسطينيّة”، طارحةً شكلاً سطحياً لأغاني المقاومة: طبقة الصوت العالية والمتفجّعة، والتعتيم على الهشاشة والضعف في الموسيقى، والكلمات التي تنتمي إلى عصر آخر. معتمدةً على قالب موسيقيّ واحد وسطحيّ يستطيع أن يستوعب أغانٍ عن المقاومة، الاحتلال، التراث، الحبّ، التصوّف، من دون حساسيّة واضحة لتغيّر هذه المعاني، أو تفاعل لعناصرها.
والنموذج المثاليّ لهذا التسطيح يتّضح في “تجليّات الوجد والثورة”. ضمّت هذه الأسطوانة أغانٍ من قصائد لا يجمع بينها إلا التحديق في هاوية ليست هاويتنا: التصوّف في شعر ابن الفارض، وقصائد اليافعين لبدر شاكر السيّاب: “أنشودة المطر” و”غريب في الخليج”، وقصيدة للشاعر، الذي تم اكتشافه من مجتمع الاستهلاك مؤخّراً: راشد حسين “الغائب”. وبالطبع “أثر الفراشة” لمحمود درويش”.
في منتصف التسعينيات، أطلقت ألبومين للأطفال هما: “قمر أبو ليلة” عام 1995، و”مكافاة” عام 1996. بعدها عادت ريم مجددًا إلى خط الغناء الوطني الملتزم، فأصدرت ألبومًا وطنيًا اسمه “وحدها بتبقى القدس” عام 2001.
ذاع صيت ريم بنا في البلدان الأوروبية بعدما شاركت في ألبوم غنائي اسمه “تهويدات من محور الشر Lullabies from the Axis of Evil” إلى جانب المغنية كاري بريمنس Kari Bremnes، إذ سافرت ريم إلى النرويج كي تقدم حفلة فنية مشتركة معها. تضمنت فكرة هذا الألبوم وجود مغنيات من بلدان محور الشر-مصطلح أطلقته إدارة الرئيس بوش على عدد من البلدان المناهضة للسياسات الأميركية-تغنين ترانيم من ثقافة بلادهن. وهكذا كان هذا الألبوم أشبه برسالة موسيقية رافضة للحرب، ومعارضة لسياسات الرئيس الأميركي جورج بوش.
لاحقا، أطلقت ألبوم “مرايا الروح” الذي أهدته إلى الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية. تميز هذا الألبوم عن سابقيه بموسيقى أغانيه التي مزجت بين نمط البوب وبين الأسلوب الشرقي. في عام 2006، أصدرت ألبوم “لم تكن تلك حياتي”، وأهدته إلى الشعبين اللبناني والفلسطيني. وفي العام نفسه اختيرت شخصية العام الثقافية الفلسطينية، ولما اعتلت منصة التتويج قالت: “صوتي كان سلاحي الوحيد ضد الاحتلال، ضد إرهاب إسرائيل التي قتلت وشردت وذبحت وحاصرت ونفت، وما زالت تمارس أبشع جرائمها ضد الشعب الفلسطيني”.
وفي العام التالي(2007)، أطلقت ألبوم “مواسم البنفسج: أغاني حب من فلسطين”، ليليه ألبوم آخر بعنوان “نوار نيسان”. وعام 2010 أطلقت ألبوم “صرخة من القدس” وعام 2012، ألبوم “أوبريت بكرا”.
والمعروف ان ريم كانت تؤلف معظم أغانيها، ولها طريقة مميزة في التأليف والغناء، قامت بتلحين قصائد وغنتها لتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم ووالدتها زهيرة الصباغ، أما الألحان، فقامت ريم وزوجها ليونيد بالمشاركة في تأليفها معاً بطريقة خلاقة وفريدة من نوعها.
لعبت أغاني ريم دوراً مهماً في إنتاج العديد من الأفلام والمسلسلات وكذلك البرامج الوثائقية التي تناولت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية بالعرض.
في عام (1994)، حصلت ريم بنّا على تكريم “شخصيّة العام” وحصلت أيضاً على لقب “سفيرة السلام” في إيطاليا. وعام (1996)، في أوسلو – النرويج، درع ” مسرح IBSEN القومي ” (النرويج)، عام (1996)، في آلما آتا – كازخستان، في ” المهرجان العالمي للأغنية -صوت آسيا “، درع ” بلدية آلما-آتا ” (كازخستان)، عام (1997)، “شخصيّة العام” من “وزارة المرأة”, تونس – تونس. وعام (1998) “شخصيّة العام” من محافظ مدينة باجة – تونس، عام (2000)، فازت الفنانة ريم بنا ” بجائزة فلسطين للغناء للعام”، عام (2013)، جائزة ابن رشد للفكر الحر.
وصفت أغانيها بأنها وسيلةٌ للتعبير عن الذات الثقافية، قائلة: “جزءٌ من عملنا يتألف من جمع النصوص الفلسطينية التراثية غير الملحنة، حفاظاً على هذه النصوص من الضياع. ثم نحاول تأليف موسيقى عصرية مستوحاة من الموسيقى الفلسطينية التُراثية لتتماشى مع هذه النصوص”.
عندما أثر المرض على أوتارها الصوتية وأعلن الأطباء أن ريم لم يعد بإمكانها الغناء في العام 2016 كتبت على صفحتها الخاصة في “فيس بوك”: “صوتي الذي كنتم تعرفونه. توقّف عن الغناء الآن أحبتي. وربما سيكون هذا إلى الأبد. لا أعلم. لم يستطع الأطباء معرفة السبب بعد كل الفحوصات والصور التي لا تُظهر أي علاقة بين مرضي وشلل الوتر اليساري الذي تسبب به عطب ما في العصب الموصول به. والسبب؟ “مجهـول”.
رحلت ريم بنا لكن كلماتها وصورها وأغانيها وجنازتها شغلت مواقع التواصل الاجتماعي، كأن قضية فلسطين استيقظت من موتها في موتها، أحباء للقضية ولريم ومبادئها في كل العالم العربي، كتبوا، بكوا، تفجعوا، كأن بموتها أحيت الذاكرة بل أحيت ذلك الحب الذي زرع من المحيط إلى الخليج بالقضية العادلة فلسطين ولم تكن الثورة السورية بعيدة وإن وجدها بعض الموتورين فرصة للانتقام من ريم التي قالت موقفها صراحة على خشبات المسرح من ظلم بشار الأسد لشعبه، نعم انتظر موت الفنانة الكبيرة ليكشف صغر نفسه.
هذا وشيعت ريم يوم السبت الماضي بعد نقل جثمانها من ألمانيا، في قاعة كنيسة الأرثوذكس في الناصرة. حيث سارع المئات من أبناء المجتمع العربي في البلاد إلى الوصول للمدينة للمشاركة في تشييع جثمان الراحلة إلى مثواها الأخير في مقبرة اللاتين بالمدينة.
هكذا تضامنت ريم مع الثورة السورية
على صفحتها على الفيس بوك أعلنت ريم بنا موقفها من بشار الأسد والثورة السورية قائلة: “أعلن لأوّل مرّة موقفي مما يحدث في سوريا: بشار الأسد سفّاح ومُجرم وقاتل الأطفال، النظام الأسدي أكثر نظام مُجرم ومتخلّف في الوطن العربي، عار على الذين يستمرّون بصمتهم، في كل لحظة تمّر ولا نتحرّك، يُقتل فيها مئات السوريين، لا للصمت على قتل أكثر من 11.000 شهيد، وفي نفس الوقت وللأسف، ما زال البعض يُدافع ويوهم نفسه بالتبريرات المُهترئة لحاكم أضاع بلد برمّتها وربما لن يبقى فيها غيره وبعض من شبّيحته وقلّة من الجبناء بعد التخلّص من شعبه، أما بالنسبة لموضوع “المؤامرة”، فهو أكبر مؤامرة كونية على فلسطين وعلى سوريا هذا موقفي، حتّى لو سيتم مُقاطعتي ومنعي وحرماني من دخول أي بلد عربي، الفن من دون
موقف وفعل، هو فن لا يختلف إلا شكلاً عن فنّ الكاباريهات، لكن بأناقة أكثر، لكل مَن يُعّظم بحاكم قاتل، أنا لا أحاكمه، هو حُرّ، لكن لن أقبل بأن يُحاكمني أحد على موقفي، مَن يرغب بحذفي من لائحة أصدقائه، فليفعل له مُطلق الحُريّة، وللشبّيحة الذين سيسارعون الآن في نقل، هذا الستاتوس لتوسيع رقعة قتلي نفسيّاً وإنسانيّاً وفنيّاً، أقول لهم: إن فلسطين علّمتني أن لا أسكت عن الظلم لن أتجاهل هذا الدم النازف لو على قطع رأسي، وأن فلسطين أيقونة تحميني من قذاراتكم، أغمضوا أعينكم إن شئتم “.

في غياب البنا :
رثت الشاعرة زهيرة صباغ (والدة ريم البنا) ابنتها بقصيدة جاء فيها:
رحلت غزالتي البيضاء
خلعت عنها ثوب السقام
ورحلت
لكنها تركت لنا ابتسامتها
تضيء وجهها الجميل
تبدد حلكة الفراق
تمهلي يا غزالتي
****
المطربة اللبنانية فيروز كتبت تغريدة على تويتر:
ما تحزنوا يا صحابي … رح نرجع نتلاقى
توفيت هذا الصباح، الفنانة الفلسطينية ريم بنا، بعد صراعٍ مع السرطان!
****
الممثلة السورية يارا صبري:
ريم بنا التي لم تعرف الا المحبة والعطاء لم تعد بيننا الآن، ريم بنا التي كانت تسقي ورد الشبابيك كل صباح، انهكتها الحياة.
*****
الناقد والشاعر الفلسطيني سامر بو هواش:
كان يكفي أن نسمع ريم بنا تغني أو تتكلم، وفي حالتها لا فرق بين الأمرين، حتى نشعر بقوة الحياة تدب في عروقنا. هكذا هم صناع الحياة ورواد الأمل، يبتسمون في وجه المأساة لأنهم أقوى منها، ويسخرون من رثاثة الحاضر لأنهم يؤمنون بعالم أفضل. رسالة ريم اكتملت وأثرها باق.

الشاعر مريد البرغوتي:
حزين وغاضب ومخذول. وداعاً ريم
*****
المطرب الفلسطيني محمد عساف:
رحلت بعد أن ملأت دنيانا حبا، فناً، أغاني وأهازيجنا، كانت من فلسطين ولفلسطين تغني وتطرز الوسادات وتزرع الزهور على شرفتها في الناصرة، كانت معركتها ليست فقط معركة الهوية والثقافة والفن الفلسطيني بل حاربت السرطان بشجاعة وأمل وتحدي. اشكرك، نحبك، لروحك السلام.

لمشاركة الرابط: