في زمن صار فيه القتل عرضًا مصورًا، والموت مشهدًا دراميًا تتسابق فيه الأصابع للضغط على زر “التسجيل”، شاهدتُ مشهدًا لن أنساه ما حييت. كان ذلك من قلب الجرح السوري، من السويداء، حيث الحرب الفحشاء لا تفرّق بين بريء ومذنب، بين مدني ومسلّح، ولا بين طفل ومسنّ.
كان المقطع المصوّر يوثّق لحظة من أكثر اللحظات سوداوية في تاريخ الإنسانية، لا في تاريخ الحروب فقط. مسلحون ملثمون، بلا ملامح ولا هويات واضحة، يحملون السلاح في يد والهاتف في يد أخرى. في مشهد يكشف إلى أي درك سحيق قد تنحدر البشرية حين تنزع عنها رداء الأخلاق، والدين، والرحمة.
في ذلك الفيديو، يُجبر ثلاثة شبّان على الصعود إلى طوابق عالية في مبنى سكني. هناك، على الشرفة، لا توجد سماء ولا أمل ولا خيار. يقف الشبان الثلاثة – المذعورون، العزّل، الضعفاء – أمام حقد جاهلي لا حدود له، حقد لا يعترف بحياة ولا بحرمة جسد.
بأوامر صارخة من تلك الوحوش البشرية، يُجبر الشاب الأول على رمي نفسه. يقفز، أو بالأحرى يُجبر على القفز، ويتردد صدى ارتطام جسده بالأرض كطعنة في القلب، كصرخة لن تُنسى. لا تمر لحظات حتى يُساق الآخران إلى ذات المصير، مع إطلاق الرصاص خلفهم، لا لإعدامهم، بل لضمان “ألا يترددوا” في الانتحار القسري. أي إجرام هذا؟ أي همجية؟ وأي زمن نحن فيه حين يتحوّل الإنسان إلى آلة قتل، بلا عقل، بلا قلب، بلا أدنى ذرة من ضمير؟
هذا ليس “قتالًا”، ولا هو “ثأر عشائري”، ولا حتى “تصفية حسابات”. هذا اغتيال علني للإنسانية نفسها. هذا المشهد لا يمتّ إلى أي دين بصلة، لا يمت إلى الإسلام، دين محمد، دين الرحمة والعدل والكرامة. بل هو نقيض للدين، نقيض للقيم، نقيض للوجود الإنساني.
ما رأيته في هذا الفيديو نكأ أعماقي، وكسر شيئًا داخليًّا لن يُرمم. تساءلت بعدها: من هم هؤلاء الشبان؟ هل كانوا مقاتلين؟ هل ارتكبوا جريمة تستحق القصاص؟ لكن الصحف أجابت: الثلاثة إخوة. من عائلة واحدة. أحدهم طالب جامعي، والثاني طبيب، والثالث مهندس. لا علاقة لهم بالعصابات ولا بالميليشيات ولا بخراب هذه البلاد الذي يزداد يومًا بعد يوم.
فما الذي جناه هؤلاء حتى يُقتلوا بهذه الطريقة الوحشية؟ هل تكفي الشبهة لتكون حكمًا بالإعدام؟ وهل صار الدم مستباحًا لهذه الدرجة؟
لا بد من وقفة صارخة أمام هذا الانفلات العشائري المرعب، وهذه العصابات المجرمة التي تحكم بقوة السلاح وتبثّ الرعب بين الناس. لا دولة تحكم، ولا قانون يُطبّق، ولا مؤسسات تحاسب. في ظل هذا الغياب، يتحوّل كل مسلّح إلى قاضٍ وجلّاد، وكل منطقة إلى ساحة حرب شخصية.
ما حدث ليس حادثة عابرة. بل هو جرس إنذار،أن الدم لم يعد له ثمن.
إنها لحظة لكتابة التاريخ من جديد، لا بالحبر، بل بالدموع والغضب والحق.

إكرام صعب [email protected]







