برالياس القرية الهادئة وسط سهل البقاع ، كانت منذ القدم طريقاً للقوافل التي كانت تمر بإتجاه بلاد الشام والعمق العربي ، وفي هذه المقاربة الحديثة التي ننتهجها هنا لن نتطرق بعمق الى التاريخ القديم للبلدة إلا كمدخل بسيط لا بد منه لتعرف عزيزنا القارىء لمحة تاريخية عن هذه البلدة الزراعية التي تحولت الى سوق تجاري مهم خلال بضع سنين تلت اشتعال الحرب الأهلية وتقطيع أوصال البقاع وفصله عن عاصمته زحلة ، إذ كان لا بد من بديل لتأمين خدمات للسوق البقاعية ، ولعبت برالياس هذا الدور مستفيدة من الموقع الإستراتيجي الوسطي وقربها من الحدود اللبنانية السورية .
تتبع برالياس جغرافياً لقضاء زحلة ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر حوالي 900 متر ، وتبعد عن بيروت حوالي 50 كلم ، ويمتد سوقها التجاري على جانبي الخط الدولي الذي يصل بين بيروت ودمشق ، لمسافة تزيد على 4 كلم ، وحدودها الدلهمية وكفرزبد شمالاً ، وعنجر الأموية التاريخية والروضة في الشرق والجنوب الشرقي ، والمرج جنوباً ، وتعنايل غرباً وزحلة في الشمال الغربي يفصلها الليطاني عن ألأرض الزراعية التابعة لمدينة زحلة ، وطريق الفيضة الفرعي الزراعي سابقاً الذي تحول في ما بعد الى شريان مواصلات بينها وبين مدينة زحلة .
ضريبة الحرب
مع اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975 وتعذر وصول معظم أهل البقاع الى مدينة زحلة عاصمة المحافظة ، كانت قد تهجرت العديد من المحلات والمصالح من “جارة الوادي” وإنكفأت كل فئة على نفسها ليعاد تشكيل المناطق ضمن تحولات ديموغرافية سكانية جديدة كانت خليطاً من الطائفية والمناطقية في كل لبنان للأسف ، ومن إنعكاسات ذلك الواقع ، إنتقلت بعض المحلات والمصالح الى برالياس التي تتوسط السهل ، وكانت البنية التحتية للبلدة ضعيفة وهي تخدم بلدة زراعية بعدد قليل من السكان وبيوت تتجمع في وسط البلدة بعيداً عن الطريق العام الذي يربط بيروت بدمشق عبر محطة شتورة ، وما لبثت البلدة أن تممدت الى الطريق العام ، وشهدت نهضة عمرانية غير مسبوقة فقامت ورش البناء سريعاً لرفد الحركة التجارية الطارئة ، وخلال بضع سنوات كانت الطريق قد تحولت الى سوق كبير يضم معظم المؤسسات التجارية ، من محلات الألبسة الجاهزة والمفروشات والأدوات الكهربائية ، الى المكتبات و”المشاغل” التي كانت تقوم بتوضيب الخضار والفواكه بالبرادات الكبيرة التي كانت تنطلق يومياً بإتجاه الدول العربية عبر نقطة المصنع الحدودية ، وكان معظم أصحاب هذه “المشاغل” من الأخوة الفلسطينيين والأردنيين في البداية الذين كانوا يؤمنون التواصل مع الأسواق العربية الخليجية التي كانت تشهد تطوراً سريعاً بعد الفورة النفطية في مطلع السبعينيات .
وسرعان ما تطورت الحركة التجارية في برالياس ، ووفد عدد من التجار الى المجتمع “البرالياسي” من القرى المجاورة ، من البقاع الغربي وراشيا لسهولة التأقلم مع المحيط ، ساعدهم على ذلك التشابه شبه الكامل في العادات والتقاليد والقواسم المجتمعية المشتركة التي سهلت الإندماج في المجتمع الجديد ، لينشاً على عجل سوق متنوع ومتجانس من قرى البقاعين الغربي والأوسط ، يخدم المنطقة والداخل العربي بأكمله ، وسارعت البنوك الى فتح فروع لها في هذا السوق الواعد ، كما افتتحت فيها فروع لشركات تجارية كبرى كان مركزها الأم في العاصمة بيروت لصعوبة الوصول اليها بسبب الحرب ، وإنتشرت المكتبات والمطاعم والأفران على جانبي الطريق ، ومنذ عام 1976 وحتى مطلع التمانينيات شهدت بلدة برالياس عصرها الذهبي ، واستضافت فروعاً عديدة للبنوك ومحلات الأدوات الكهربائية والمنزلية ، والألبسة الجاهزة وتجهيز العرائس والأقمشة والمفروشات ، وصيانة السيارات والآليات وقطع الغيار ، وعرفت لأول مرة إحدى فروع وكالات السيارات ” داتسون ” (صارت نيسان حالياً) وتأقلم المواطن البقاعي بشكل تدريجي مع عملية شراء السيارات الصغيرة الإقتصادية الجديدة وشاحنات النقل الخفيفة التي كانت السوق التجارية الجديدة الناشئة في المنطقة بحاجة إليها مع مطلع الثمانينيات من القرن الماضي .
برالياس في الذاكرة
كانت بلدة برالياس القديمة تلتف حول تل ترابي كبير بعيداً عن الطريق الرئيسي الذي تحول الى سوق كبير واستمرت كذلك حتى السبعينيات ، وكانت من بعض معالمها الرئيسية عيادة الطبيب الشهير الدكتور محمد علي السيد رحمه الله تعالى ، الذي كان من ضمن قلة من الشباب البقاعي الذين سافروا الى فرنسا والجزائر في الستينيات ليدرس الطب والجراحة ويعود الى المنطقة ويكون طبيبها الرئيسي ، من أقصى البقاع الغربي الى الأوسط وباقي البلدات البقاعية ، وينال حب أهل المنطقة والجوار ، ومن الذكريات الطيبة يذكر أنه مرض مرة وأدخل الى المستشفى ، وعاده وفد من بلدتنا المنارة البقاعية ، وحمل الوفد إليه باقة زهور كبيرة من كل الألوان للدلالة على العرفان بجميله من كل أسرة في البلدة ، فتأثر الدكتور السيد رحمه الله ودمعت عيناه فرحاً وإمتناناً .
ومن العلامات المميزة أيضاً في البلدة كان محل قاسم سعيد الجمال رحمه الله ” الذي كان يعرف في المنطقة بإسمه المحلي (قاسم أبو صلاح) وكان من أهم مستوردي الدراجات الهوائية في المنطقة ، فطبيعة أرض برالياس المنبسطة كانت تسهل على المزارعين والأهالي حتى الكبار في السن منهم إستخدام الدراجات الهوائية القوية في تنقلاتهم وصيانتها ، وكان كذلك قبلة أنظار الأطفال في المنطقة لشراء الدراجات الأنيقة ، ونحن كنا منهم طبعاً .
وكذلك من معالم بلدة برالياس حينها كانت محمصة عبد الهادي زينة الشهيرة التي كانت تنشر رائحتها النفاذة لتحميص البزورات والبن وصناعة السكاكر صباحاً على كل السوق ، ومحطة المرحوم الحاج سعيد دلة في الوسط (مازالت تعمل حتى حينه)، ومكتبة عصام الجراح مقابل مدخل البلدة والوحيدة حينها والتي كانت زيارتها ضرورية عند بدء العام الدراسي من قبل الطلاب وأولياء أمورهم للتزود بالكتب المدرسية والقرطاسية ، وبقربها كان مكتب “وزارة البريد والبرق والهاتف”(هكذا كان إسم الوزارة المعنية منذ الخمسينيات) الذي كان يؤمن التواصل مع العاصمة بيروت وباقي المناطق بتوزيع الرسائل يدوياً وإرسال البرقيات المستعجلة عبر الأثير في ذلك الحين ، وكانت حينها توازي خدمة الأنترنيت حالياً ، لتنتشر المكتبات بعد طفرة كبيرة في متابعة الأخبار والصحف والمجلات الرياضية والفنية ، وكذلك محلات بيع وتسجيل الكاسيت (ديسكوتيك بلغة تلك الأيام) التي كانت شعار المرحلة في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات ، وتشهد المنطقة بناء مدارس وثانويات وأندية رياضية وإجتماعية منها نادي ناصر الذي صارت له مشاركات مهمة في لعبة كرة القدم في لبنان ووصل الى ترتيب أندية الدرجة الثانية في لبنان ، وضم النشاط الرياضي فيها مهرجانات رياضية صيفية بقاعية ، وبخاصة دورات في الكرة الطائرة والشطرنج والسلة والطاولة ، كما تم تأسيس الفرق الكشفية التي شاركت في النشاطات والمناسبات والأعياد ، بالإضافة الى ناد ومرمح للفروسية وركوب الخيل التي اشتهرت به برالياس منذ القدم . وأقيمت سلسلة منتزهات على مجرى نهر الغزيل الذي يحدها شرقاً ويرفد نهر الليطاني ليسيرا معاً بإتجاه سد القرعون .
تمدد عمراني قياسي
إستقطبت برالياس ورشة إعمار وبناء هامتين في سبيل تامين أبنية لإستيعاب هذه السوق الناشئة ، وتراصفت الأبنية على جانبي الطريق الدولية الى دمشق وبشكل أساسي من مدخل البلدة الرئيسي الى مدخل بلدة المرج المجاورة ، لتعود البلدة بعدها فتتمدد الى المساحات الداخلية الفارغة التي امتدت من غربي المستشفى وسط البلدة لتصل غرباً الى مجرى نهر الليطاني الذي كان يرى بوضوح من الطريق الرئيسي الذي يلتف بشكل نصف دائري من وسط البلدة ويرافق مجرى النهر حتى مفرق بلدة المرج المجاورة ، حولت الحركة العمرانية بلدة برالياس الى مدينة مصغرة تستطيع تأمين معظم الحاجيات التي كانت تؤمنها مدينة زحلة للمنطقة قبل الحرب ، وكان من أثر تحول الزخم العمراني من داخل البلدة ، بناء مسجدها الكبير بعد أن ضاق مسجد البلدة القديم بالمصلين ليرتفع البناء الجديد على الطريق العام ويضم في ما بعد المؤسسات الوقفية البقاعية .
وعلى الصعيد الشخصي كنا جزءاً من هذه “الطفرة العمرانية” بحكم عمل الوالد – رحمه الله تعالى – كأحد متعهدي البناء الكبار حينها لنقوم ببناء وتشييد العديد من الأبنية والمحلات التجارية توسطها أعلى بناء حينها في برالياس ، وكان مؤلفاً من 6 طبقات ولا يزال حتى حينه هو الأعلى في بلدة برالياس منذ أكثر من 40 عاماً لمالكه العم سليم دلة -أطال الله عمره – الذي أراده بناءً عالياً يشار اليه بالبنان ، وينضم الى سوق يصل بلدة برالياس بمفرق بلدة المرج المجاورة ، بعد أن كان في مطلع السبعينيات يضم بضعة بيوت صغيرة بنيت خارج البلدة ، طليت معظمها باللون الأصفر على جاري العادة حينها وسط الأراضي الزراعية كبيت المرحوم العم أبو سليم الحشيمي وبيت آل سلوم ، وآل الهندي في الجهة المقابلة التي إنضمت المحلات فيها على الجهة الأخرى الى المشهد ، لتحجب مجرى نهر الليطاني كلياً عن النظر وفي وقت متزامن تقريباً ، هذا النهر الذي سيصبح بعد عقود من الزمن مصدراً من مصادر التلوث القاتل بالسرطان الذي سنفرد له بإذن الله بحثاُ منفصلاً في وقت لاحق .
واستمرت برالياس بإستقبال التجار الجدد الوافدين الى السوق من المناطق البعيدة ، وفتحت فيها دار للسينما لتشهد هذا التحول الديموغرافي القوي من مجتمع زراعي يعتمد على الزراعة وري الأراضي بالآبار الأرتوازية ، الى مجتمع تجاري يؤمن خدماته البينية ويصدر العديد من السلع الى الداخل العربي وفي طليعتها الأسواق السعودية والإماراتية والكويتية والقطرية …. والسورية بالطبع .
وبعد مرور حوالي عقدين من الزمن يطرأ تغيير جذري على الطريق الرئيسية ليتم فصلها بوسطية زرعت بألأشجار والورود . ومع مرور السنين تشهد السوق العديد من التحولات لتصبح سوقاً رئيسية لتصدير الأدوات الكهربائية والصحية والمنزلية والمفروشات الى الداخل السوري الذي كان ولا يزال يعاني من نقص كبير جداً في هذا المجال ، وبدأت بعض المحلات حينها تسعر السلع بالعملة السورية بشكل مواز ، وانتشرت محلات الصرافة وتبديل العملات بشكل لافت ، وكان بعضها متنقلاً .
مستشفى موصد الأبواب
وقبل هذا التحول الكبير ومع بداياته ، كانت برالياس قد شهدت مع مطلع الحرب اللبنانية نشاطات إجتماعية واعدة من كوكبة من شبابها في محاولة جدية للنهوض بحال البلدة من عدة نواح وفي طليعتها الصحية والتعليمية ، وقامت لجنة خيرية ببناء مستشفى برالياس في وسط البلدة من تبرعات الأهالي لكن لسوء الحظ بقي مدة طويلة بعد الإنتهاء من بنائه متوقفاً عن العمل ، وسط تقصير واضح من الدولة التي لم تبادر حينها ممثلة بوزارة الصحة الى تجهيزه واستخدامه ، ليتحول مبنى المستشفى الى ملجأ للمهجرين بسبب الحرب الأهلية ، وغالبيتهم من الأخوة الفلسطينيين الذين هجروا من مخيم تل الزعتر والمسلخ ، وبعد اتفاق الطائف تم إخلاء المبنى وتعويض قاطنيه وتحويله الى مستوصف ، وشغلت البلديات المتعاقبة الى الأمس القريب المبنى ليصبح داراً للبلدية ، وأقامت ملاعب وقاعة نشاطات ثقافية إجتماعية بجانبه وسنترال وحديقة عامة ، ليصبح حالياً مستشفى تديره جمعية “أطباء بلا حدود” وتعالج فيه النازحين السوريين الهاربين من جحيم الحرب ، وتجرى فيه بعض العمليات البسيطة
الجمود الحالي سيد الموقف
وفي السنوات الأخيرة تحول السوق رويداً رويداً الى الزبون السوري الرئيسي للسوق ، ليجذب الموقف العديد من التجار السوريين الذين بادروا كذلك الى فتح المحال التجارية بأنفسهم .. ويكمل التحول الدراماتيكي بعد فتح الأسواق السورية على الخارج وإعادة تشغيل بعض المعامل السورية منذ سنوات ، فتنعكس الآية ليغرق سوق برالياس بالبضاعة السورية الرخيصة السعر بعد تراجع القدرة الشرائية للمواطن اللبناني بشكل عام في السنوات الأخيرة.
تلك هي بعض ملامح من قصة تحول برالياس من بلدة زراعية صغيرة في وسط سهل البقاع الى سوق تجاري كبير ونشوء مجتمع مديني مختلط من برالياس والقرى المجاورة ، ولكنه في هذه الأيام – لسوء الحظ – يعاني من حالة ركود زادتها جائحة كورونا جموداً وتراجعاً في الحركة التجارية والخدماتية والحياتية ، ويسعى المواطن فيها الى تحصيل لقمة عيشه بجهد وجد منتظراً الفرج القريب من رب العالمين .