نظمت سفارة دولة الامارات العربية المتحدة، بالتعاون مع اللجنة الوطنية المسيحية الاسلامية للحوار “اللقاء الحواري المسيحي الاسلامي” بعنوان: “التعارف والاعتراف: نحو دولة المواطنة”، ضمن مبادرات “عام زايد”، في فندق هيلتون حبتور- سن الفيل، شارك فيه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب ممثلا رئيس المجلس الشيخ عبد الأمير قبلان، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، السفير البابوي في لبنان جوزف سبيتاري، سفير دولة الإمارات حمد سعيد الشامسي، سفير المملكة العربية السعودية وليد البخاري، نائب رئيس المجلس الأعلى للروم الكاثوليك وزير الدولة لشؤون التخطيط في حكومة تصريف الاعمال ميشال فرعون، الاب نكتاريوس خيرالله ممثلا مطران بيروت للروم الأرثوذكس الياس عودة وممثلون عن الطوائف المسيحية والإسلامية كافة واعضاء لجنة الحوار المسيحي الاسلامي، واعضاء اللجنة الوطنية المسيحية الاسلامية للحوار,
الشامسي
بعد النشيدين اللبناني والإماراتي، القى السفير الشامسي كلمة قال فيها: “يطيب اللقاء دائما مع هذه القامات الوطنية وفي أوقات البحث عن ملاذ آمن وسط كل ما يجري من حولنا. يكتسب هذا الجمع دلالات ومعان عميقة لا يعيها إلا من يدرك أهمية الفرادة التي يتمتع بها لبنان وضرورة الحفاظ عليه كما رآه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله”.
اضاف: “الفكرة ذاتها عبر عنها قداسة بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني، الذي قال إن “لبنان أكثر من بلد.. هو رسالة حرية ومثال تعددية للشرق كما للغرب”.
وتابع: “رسالتنا اليوم هي رسالة محبة وتسامح مبنية على التعارف والاعتراف ليكون لبنان محصنا من كل الأحقاد والفخاخ التي تستهدف وحدته الوطنية، وتسعى لأخذه إلى مواقع ليست على صورته. فالفكر المتطرف وما ينتج عنه من أعمال، وخطاب الكراهية والغلو وما يفرزه من شقاق في الصف الواحد، أمور لا يمكن علاجها إلا بالعودة الى هوية المواطنة والانتماء الى الوطن الذي يتقدم على كل ما عداه من جماعات”.
وقال: “تعرفون أن دولة الإمارات العربية المتحدة حاضنة لقيم التسامح والسلم، والأمان، والتعددية الثقافية، حيث تضم أكثر من 200 جنسية تنعم بالحياة الكريمة والاحترام. كما تكفل قوانينها العدل والمساواة، وتجرم الكراهية والعصبية وازدراء الأديان، وأسباب الفرقة والاختلاف. في الوقت ذاته، فإن بلادي شريك أساسي في اتفاقات ومعاهدات دولية لنبذ العنف والتطرف والتمييز، وأصبحت عاصمة عالمية تلتقي فيها حضارات الشرق والغرب، لتعزيز السلام والتقارب بين الشعوب كافة”.
وأعلن انه “في هذا الاطار وجه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، بإعلان العام المقبل 2019 في الامارات عاما للتسامح بهدف تعزيز الدور العالمي الذي تلعبه الدولة كعاصمة للتعايش والتلاقي الحضاري، وترسيخ هذه القيمة التي أرادها القائد المؤسس سمة ملازمة للمجتمع”.
وأشار الى ان “الامارات تحتضن المساجد وأكثر من 45 كنيسة ومعبدا تتيح للأفراد ممارسة شعائرهم الدينية، ومن بينها كاتدرائية النبي الياس في ابوظبي وهي أكبر كنيسة للروم الأرثوذكس في الشرق الأوسط. وتتبنى الدولة مبادرات دولية، كالتي نحن في صددها اليوم، لترسيخ السلم العالمي”. وقال: “من أبرز الجوائز في هذا المجال جائزة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي للسلام العالمية، التي تنطلق من التعاليم الإسلامية السمحة، وتتجلى فيها معاني الاعتدال، إذ يشدد سموه على ضرورة إرساء قيم التسامح ونبذ التطرف والانفتاح على الثقافات والشعوب كتوجه مجتمعي عام تنخرط فيه فئات المجتمع كافة بما فيها القطاعين الحكومي والخاص”.
وأعلن عن “مثال عملي آخر على روح التسامح، توجيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بإطلاق اسم مريم أم عيسى (عليهما السلام) على مسجد الشيخ محمد بن زايد في أبوظبي، وذلك ترسيخا للصلات الإنسانية بين أتباع الديانات. ويرى سموه أن المجتمعات التي تؤسس على قيم ومبادئ التسامح والمحبة والتعايش هي التي تستطيع تحقيق السلام والأمن والاستقرار والتنمية بكل جوانبها وترتقي بطموحات وانجازات أوطانها في مسيرتها نحو المستقبل”.
واكد الشامسي “ان النشاط الإماراتي في نشر رؤية الشيخ زايد (طيب الله ثراه) لا ينحصر في استضافة القمم الروحية، التي شارك معظمكم فيها، وآخرها “القمة العالمية للتسامح”، و”منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” بدورته الخامسة. بل هي سلسلة طويلة من المبادرات التي تصب في سياق ترجمة هذه الرؤية الى حقيقة يشهد عليها العالم ففي العام 2012 أقامت الدولة مركز التميز الدولي لمكافحة التطرف العنيف “هداية”، كما أسست في 2014 “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، وأتبعته في العام ذاته بإنشاء “مجلس حكماء المسلمين” كهيئة دولية مستقلة لتعزيز قيم التسامح”.
وقال: “في العام 2015 كان إطلاق مركز “صواب” لدعم جهود التحالف الدولي في مواجهة التطرف، وأتى إنشاء وزارة التسامح تتويجا لهذه المبادرات، إضافة الى اعتماد “البرنامج الوطني للتسامح” في العام ذاته. إحدى الخطوات المهمة في هذا السياق كان تأسيس “المعهد الدولي للتسامح” في 2017 ومن ثم تدشين “المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة” العام الحالي”.
اضاف: “القائمة أيها السادة تطول وقد لا يتسع المجال لذكرها، ونحن أيضا على موعد مع حدث توليه القيادة الإماراتية الحكيمة أهمية قصوى، أعني به زيارة قداسة الحبر الأعظم البابا فرانسيس إلى أبوظبي بين 3 و5 فبراير/ شباط المقبل، وهي زيارة تاريخية بأبعادها كافة، وتعد بأن تكون حديث العالم”.
وختم متمنيا “لأعمال هذا اللقاء الحواري النجاح، وأشكركم على تلبية دعوتنا لما فيه الخير للبنان الشقيق. بالسلام بدأت وبالسلام عليكم أختم، لأن السلام رسالتنا الى العالم”.
الراعي
ثم القى البطريرك الراعي كلمة، فقال: “يسعدني أن أوجه تحية خاصة إلى سعادة سفير دولة الإمارات العربية المتحدة، السيد حمد الشامسي، وأشكره على الدعوة للمشاركة في هذا اللقاء الحواري، من ضمن مبادرات “عام زايد”، الذي يجمعنا للتباحث معا في موضوع: “التعارف والاعتراف… نحو دولة المواطنة”، من أجل “نشر ثقافة قبول الآخر، ونبذ خطاب الكراهية والغلو وازدراء الأديان”.
اضاف: “في اعتقادي إن المواطنة هي المدخل. فهي بمثابة الروح بالنسبة إلى الانتماء إلى دولة، وإلى الجنسية. كلنا بالولادة ننتمي إلى دولة، ونكتسب جنسيتها وهويتها. وكذلك في حركة الهجرة، المهاجر ينتمي إلى الدولة المضيفة، ويحصل على جنسيتها ويحمل هويتها. تبقى الحاجة إلى روح المواطنة التي تعطي النكهة والحس الوطني، والتي نكتسبها بالتربية”.
وتابع: “عندما نقول “إنتماء” و “جنسية” و “هوية” نعني الوجه القانوني الذي يولي المرء حقوقا ويفرض عليه واجبات في الدولة. أما عندما نقول “مواطنة” فنعني الروح الوطنية الغنية بمحبة الوطن والقيم الأخلاقية التي تحرك لدى المواطن ممارسة حقوقه وواجباته المكتسبة بالانتماء والجنسية. المواطنة روح وثقافة يتميزان بحب الوطن والمواطنين. فلا تستغل قدراته وطاقاته وماله العام لمصالح شخصية. بل المواطن الحقيقي هو الذي يعزز هذه القدرات، وينمي المؤسسات العامة، ويحترمها ويحافظ عليها بمبانيها وأثاثها. المواطن الحقيقي يؤدي الواجبات تجاه الدولة وفقا لقوانينها. والدولة من جهتها تسهر على تأمين المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين”.
واكد ان المواطنة هي الولاء الحقيقي للوطن والالتزام بخدمة الخير العام، وتستوجب المساواة بين المواطنين. إنها قاعدة الوحدة بين المواطنين، وهي حافظة التعدد والاختلاف بين جميع مكونات الوطن، وتستوجب العدالة الاجتماعية والتوزيعية بحيث ينعم الجميع من خيرات الوطن، وتوفر لهم تكافؤ الفرص، والمشاركة في الحكم والإدارة، وتعزز مشاعر الثقة والاحترام المتبادل. عندما تتأصل المواطنة في النفوس، ينفتح باب التعارف والاعتراف المتبادل، مع ما يحتوي من غنى، وتنتشر ثقافة قبول الآخر المختلف بروح التكامل، ويتراجع حتما السعي إلى العنف لحل النزاعات، ويتلاشى خطاب الكراهية والحقد والتحريض”.
وقال: “غير أن المواطنة تحتاج إلى تثقيف إنساني واجتماعي ووطني، يبدأ في العائلة وتتولاه المدرسة والجامعة، المعنيتان مباشرة بالتربية. وتتحمل مسؤوليته الدولة بأدائها تشريعا وإجراء وإدارة وقضاء، والأحزاب التي وجدت في الأصل من أجل خدمة الوطن وتعزيز روح المواطنة والولاء له لدى المحازبين، والنقابات التي فيما تطالب بحقوقها تلتزم بالواجبات تجاه الدولة، وسائر هيئات المجتمع المدني بما تقوم به من مبادرات في هذا السبيل”.
اضاف: “أما مضمون هذا التثقيف على المواطنة فهو تربية الأشخاص على إدراك قيمتهم في ذاتهم، وليس في انتمائهم إلى هذا الحزب أو هذا المذهب، وعلى الاستقلال والحرية والانفتاح في العلاقات مع الآخرين، من دون أفكار مسبقة واعتبارات دينية أو حزبية، فعلى كرامة الوجود الحر بحرية أبناء الله على أساس من الحق والخير والجمال. إنها تربية على حسن العيش معا الذي جعله الميثاق الوطني في لبنان أساسا للدولة ولشرعية السلطة فيها، كما نصت مقدمة الدستور (راجع الفقرة ي)، ومصدرا للحريات المدنية العامة وفي طليعتها الحرية الدينية وحرية المعتقد والرأي والتعبير (راجع الفقرتين 9 و 13). هذا ما جعل العيش المشترك المسيحي – الإسلامي في لبنان نموذجا ورسالة وأهله ليكون “مركزا لأكاديمية حوار الأديان والثقافات والحضارات”.
وتابع: “في ضوء كل ذلك، تقتضي المواطنة، لكي تمارس حقا وتعاش، وجود الدولة المدنية، غير الدينية. بمعنى أنها لا تعتمد دينا للدولة، ولا كتابا دينيا للدولة يكون مصدر التشريع فيها، ولا تحصر السلطة السياسية والعسكرية والقضائية العليا بدين أو مذهب، وتحترم جميع الأديان وعقائدها، وتتعاون معها من أجل الخير العام وخير الإنسان. إن لنا نموذجا لهذه الدولة المدنية في لبنان. لكننا نلفت النظر إلى أن الممارسة السياسية في هذه السنوات الأخيرة انحرفت بلبنان من الولاء له إلى الولاء للمذهب والحزب وصاحب النفوذ، وضيقت على روح المواطنة. هنا توجد مكامن عثراته السياسية مع ما ينتج عنها من أزمات على كل صعيد”.
وختم بالقول: “لا بد من وقفة وطنية مسؤولة، يستعيد بها اللبنانيون هويتهم الحقيقية، والأسس التي بني عليها لبنان كدولة مدنية تميزت بالمواطنة كانتماء، وبالعيش المشترك الإسلامي – المسيحي على أساس المساواة، كهوية شبهته بنسر ذي جناحين. هذا هو العقد الاجتماعي الذي قام عليه لبنان، وصانه الميثاق الوطني والدستور، والذي يوجب تجديده، ونحن على مشارف الاحتفال بمئوية تأسيس دولة لبنان في أول أيلول 2020”.
دريان
وألقى المفتي دريان كلمة بالمناسبة، فقال: “أن تحتفل دولة الإمارات العربية، بإحياء ذكرى مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يرحمه الله، فذلك أمر طبيعي. فالرجل الذي عرف بالحكمة وبعد النظر والإيثار، يعتبر رائدا من رواد الأمة العربية، وعلما من أعلامها .. فقد أثبت نجاح مبادرته الشجاعة، بإقامة الاتحاد بين إمارات الخليج العربي، وأثبت أن الوحدة ليست مجرد شعار فقط، ولكنها صيغة لحياة أفضل، وأنها الطريق الأسلم لتحقيق الطموحات الوطنية، في التقدم والرقي والازدهار. ويشهد على ذلك، التقدم الحضاري الذي تعيشه دولة الإمارات اليوم.. كما يشهد عليه امتداد هذا الدور إلى خارج حدود الدولة، حيث تضيء مبادراتها البناءة، طرق الوفاق والتسامح والمحبة في العالم العربي، وفي العالم. ومن هذه المبادرات، الدعوة إلى هذا اللقاء الإسلامي – المسيحي، تعزيزا للوحدة الوطنية اللبنانية، وتأكيدا على الالتزام بصيغة لبنان، وبرسالته في العيش المشترك”.
اضاف: “يهمني هنا، أن أشير إلى أنه لا توجد طائفة من الطوائف المسيحية الشقيقة في لبنان، إلا ولها كنيسة في دولة الإمارات، أقيمت على أرض منحتها الدولة لها. ولعل أول كنيسة شيدت في هذه الدولة الشقيقة، كانت بمبادرة من رئيسها الشيخ زايد يرحمه الله، في مدينة العين، وفي بيت كانت تقيم فيه عائلته. لقد أردت من وراء الإشارة إلى هذا الأمر، أن أؤكد أن إيمان دولة الإمارات بفلسفة التعايش، واحترام التعدد الديني، هي فلسفة متأصلة في قيادتها، ومتجذرة في مجتمعها. وهو ما يفسر تنظيم هذا اللقاء، بمناسبة إحياء ذكرى مؤسسها، الشيخ زايد يرحمه الله. إن هذه المبادرة، تلقى هوى في نفوسنا جميعا نحن اللبنانيين، وتتماهى مع صيغة عيشنا، ومع الأسس التي يقوم عليها وفاقنا الوطني، الذي يشكل العمود الفقري لأمننا واستقرارنا. بل وأستطيع أن أقول: لوجودنا ولمستقبلنا”.
وتابع: “التعارف والمعروف، عنوان كريم لموضوع كريم، يتصل بالعيش الوطني، وبالعيش الإسلامي- المسيحي، والمسيحي- الإسلامي. التعارف أمر قرآني مشهور، في قوله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير”، فالتعارف الذي يعني المعرفة والاعتراف، لا يبلغ درجته إلا أهل التقوى، الذين أكمل الله سبحانه بهم الآية. ولا شك في أن المعروف، وهو فضيلة أخلاقية كبرى، يأتي بعد التعارف. فعندما تعرف مواطنك بحق، تسارع إلى التعامل معه بالمعروف”.
وقال: “لماذا نحتاج إلى هذه الدورة التعليمية، إذا صح التعبير؟ لأن التعدد الإثني والثقافي والديني، يجعل الأمر صعبا وينشر الهواجس. ولذلك، دعانا الله سبحانه إلى التعارف، من خلال الاختلاف ومن خلال التعدد. والمعرفة عن كثب، تزيل الشكوك، وتخمد الأوهام. فلا شيء أقدر من المعرفة على تجاوز الهواجس، وعلى الإقبال على المعروف، لأن المعرفة محررة. إنما كيف تحدث تلك الصلات المحمودة التي تتجاوز الاختلاف؟ تحدث من خلال العيش المشترك. وأذكر أننا نحن رجال الدين، عندما بدأنا نستخدم التعبير من السبعينيات، كان الحزبيون يسخرون منا بأحد الاتجاهين: إما أنهم لا يرون العيش المشترك كافيا ولا بد من عيش واحد، وإما أنهم يرون العيش المشترك مستحيلا، وإلا فأين هي عوامل الافتراق؟ وكيف نتعامل معها؟”.
اضاف: “اننا نتعامل مع الاختلافات باعتبارها معطيات مضخمة إلى حد بعيد. إن أيا يكن تضخيمها فإنها تظل اختلافات ينبغي التعامل معها. ولذلك، فإن العيش المشترك، هو واقع وممارسة، ويمكن أن يزيل كل الشكوك أو بعضها، ثم ندخل إلى التعامل بالمعروف، فتزول كل وجوه الاختلاف!”.
وقال: “كيف تزول وجوه الاختلاف؟ هي في الحقيقة لا تزول، لكننا نصبح قادرين على التجاوز والتواد باتجاه الحقوق واتجاه المواطنة. فالمعروف يصنع مجتمع الخير، والمواطنة تصنع دولة العدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي. إن واجب الهيئات الدينية والأخلاقية والمدنية أن تصنع مجتمع الخير الذي يفيد منه مجتمع العدالة”.
واردف: “لماذا نقول ذلك هنا والآن؟ لقد جئنا بدعوة من السفير حمد الشامسي، سفير دولة الإمارات، التي لها أياد بيضاء على لبنان، منذ عقود وعقود، أي منذ أيام المؤسس، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه. ودولة الإمارات تبرز باعتبارها دولة المواطنة والحكم الصالح. وهم لا يأخذون علينا شيئا، لكنهم يذكروننا بعقود المواطنة وعهودها التي أفادوا بشأنها منا، ثم مضوا قدما في حين لم نمض نحن إلى أي مكان”.
وقال: “لماذا كان ذلك؟ لثلاثة أسباب، الأول: الصراعات السياسية التي لا تخمد، ولا تخضع لمقاييس محددة. والسبب الثاني: التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية. والسبب الثالث: ضياع البوصلة، أي من أين نبدأ إذا أردنا الإصلاح؟”.
اضاف: “إن هذه الصبيحة من الحديث عن التعددية والمواطنة والعيش المشترك، وكل ذلك في قالب حواري، ومسالمة وسلام؛ كل ذلك حري بنا أن نوظفه في العودة إلى التعارف والمعروف. أنا أرى بشارات واعدة على الأرض وكثيرة. نعدو بها جماعات دينية ومدنية. وأحسب أن هذه النشاطات إن تكاثرت، فإنها تشكل نقلة باتجاهات وآفاق واعدة. فليكن رائدنا النشاط والحركة بالاتجاه الصحيح، مهما بلغت الصعوبات، لأن الحوار لا ينتظر، والإرادات الطيبة لا تنتظر”.
وختم: “إنني إذ أشكر سفير دولة الإمارات العربية المتحدة في لبنان، الأخ العزيز، الدكتور حمد الشامسي، على مبادرته بالدعوة إلى هذا اللقاء، أعرب لدولة الإمارات العربية المتحدة، عن تقديرنا الكبير، لرفع راية التعايش الإسلامي – المسيحي في لبنان وفي الإمارات، وفي العالم كله. فالناس أسرة واحدة، خلقهم الله سبحانه وتعالى من نفس واحدة، وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا. وها هم يتعارفون في هذا اللقاء، التعارف الذي يقوم على تقبل واحترام الاختلافات التي خلقها الله فينا، والتي شاءت إرادة الله أن تبقى فينا ومعنا، حتى يوم الدين. أجدد الشكر لكم جميعا، وأتمنى للقائكم كل النجاح والتوفيق، في خدمة أهدافنا الوطنية المشتركة، في العيش معا بمحبة واحترام وسلام. وشكرا لسفير دولة الإمارات على تذكيرنا بالواجب، وتعالوا نتلاقى على الخير والود والمعروف والمجتمع الصالح”.
كلمة قبلان
وألقى الخطيب كلمة الشيخ قبلان، فقال: “أتوجه باسم رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي شرفني بتمثيله في هذا اللقاء الكريم وباسمي بالتحية وبالمحبة الخالصة لكم جميعا ولسعادة سفير دولة الإمارات العربية المتحدة في بيروت، بالشكر الخالص للدعوة الكريمة للمشاركة في هذا اللقاء الجامع، كما أتقدم منكم جميعا بالتهنئة والتبريك بمناسبة ذكرى ولادة رسول الرحمة محمد صلى الله عليه وآله، وولادة رسول الله المسيح عيسى بن مريم، آية الله ومعجزته، متمنيا أن يحقق الغاية المنشودة منه، والذي كان عنوانه “التعارف والإعتراف: نحو دولة المواطنة”.
وأشار الى ان اللقاء “يشكل ثلاثة عناوين هامة ومركزية لمجتمعاتنا العربية المتنوعة، المتنوعة الأعراق والثقافات والأديان، وخصوصا في هذه الظروف البالغة الخطورة، والتي غدا فيها هذا التنوع عامل ضعف، تؤتى مجتمعاتنا من قبله، من أجل تفكيكها والإجهاز عليها، لغايات خبيثة ليست خافية على أحد، وعلى رأسها إيجاد الأرضية اللازمة لشرعنة الكيان الإسرائيلي الغاصب، وتبرير وجوده العنصري ولا يمكن أن يتحقق له ذلك طالما أن البنية المحيطة به تتعايش تنوعاتها المختلفة ضمن كيانات وطنية واحدة، فكان لا بد له من العمل على ضرب هذا التعايش، بتحريك عوامل التفكيك، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، كما حدث في السنوات الأخيرة في عدد من الدول العربية ولا يزال، الأمر الذي هدد وحدة هذه الدول وشغل شعوبها بحروب طائفية وعرقية وقبلية وصرفها عن التفكير بمصدر الخطر الأساسي الذي يقف وراء كل ذلك، وهو الكيان الإسرائيلي الغاصب، مستغلا طموحات بعض الأفراد والقوى، وضعف بعض الممسكين بالأمور عن مقاومة تحقيق إرادات خارجية وحاجتهم في البقاء إلى رضى أصحاب هذه الإرادات فانخرطوا جميعا عن وعي أو عن غير وعي، من دون ما تدبر بعواقبه المدمرة وأهدافه الخبيثة”.
اضاف: “وهكذا بدت كياناتنا ضعيفة هزيلة، وتحولت إمكانياتها الهائلة إلى أداة هدم ذاتية، بدل أن تستغل في مشاريع داخلية لتقوية الشعور بالمسؤولية الوطنية والقومية، قادرة على مواجهة الأخطار الخارجية، التي تهدد وحدتها الداخلية، وفوق كل ذلك كان العمل من أجل تحميل الدين والمذهب مسؤولية هذا الإنحدار، إلى هذا المستوى الرهيب من دون إعفاء البعض ممن تلبس لبوس الدين، من الشراكة في تحمل هذه المسؤولية مستغلين حالة الجهل السائدة بين الجماهير، نافخين في نار العصبية المقيتة بدل أن يكونوا عوامل إطفاء لها، وراحوا يصدرون الفتاوى إرضاء لبعض اصحاب المصالح والقوى أو تحقيقا لبعض الأحلام، للحصول على بعض المكاسب الحقيرة فباعوا دينهم بدنيا غيرهم”.
وقال: “لذلك أرى هذا اللقاء، وتحت هذه العناوين “التعارف والإعتراف: نحو دولة المواطنة أكثر من ضرورة” في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها أمتنا ودولنا، وإيلاءها الإهتمام اللازم من أجل تدارك الأخطار المحدقة بنا جميعا”.
اضاف: “لقد كان التعارف بين مكونات أمتنا واعتراف بعضهم بالبعض الآخر، سمة من سماتها وثقافتها وحضارتها العربية والإسلامية، فعبر عنها القرآن الكريم في أكثر من آية من آياته الكريمة، بل جعل التعارف غاية من غايات التنوع والتعدد، فقال “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم “الحجرات / 13″. لم يكن التنوع والتعدد، يوما من الأيام، أمرا منكرا في فكرنا وديننا (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين / هود 118 )، إن الإختلاف في التفكير والإتجاهات والمستويات هو الذي أفضى على الحياة غناها وجمالها، وهو ثروتها الأهم وإن التطرف أمر ينبذه ديننا وخلقنا كيف ونحن الأمة الوسطى، إن التطرف خلاف الطبيعة البشرية والأخلاق والسير النبوية، وعلى هذه القاعدة اعترف الإسلام بالديانات الأخرى ودعى إلى التحاور معها، ولم يمنع أهله من التعامل مع أهلها، قال تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا آل عمران / 64) بل حثنا على التعامل الإيجابي معها، فقال (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين / الممتحنة / 8)”.
وتابع: “من البديهي القول أن لا وحدة وطنية دون التعارف والإعتراف، كما أن من البديهي أن لا أعتراف من دون تعارف، تراتبية منطقية إن الوحدة الوطنية لا تتنافى مع الدين ولا تتناقض معه فمع وجود التنوع، تصبح الوحدة الوطنية أمرا لا مفر منه، وتصبح المشاريع الطائفية أمرا خطيرا يهدد وحدة الأوطان، ويعرضها لأخطار الحروب والتنازع والإنقسام، ومن هنا تتحمل النخب إلى جانب قوى السلطة مسؤولية كبيرة في هذا المجال، وإشعار المواطنين بانتمائهم الوطني والتعامل معهم على هذا الأساس، لا على أساس الإنتماء الطائفي والفئوي، وأن هناك مواطنين أصيلين من الدرجة الأولى ومواطنين ثانويين من الدرجة الثانية، عليهم واجبات وليس لهم حقوق، وهي إحدى أخطر عوامل ضعف المجتمعات والأوطان، وباب تآمر بعضهم على البعض الآخر، وأهم أبواب نفوذ العدو إلى داخل مجتمعاتنا”.
وقال: “في الخلاصة، فإننا مدعوون جميعا، نخبا ومسؤولين إلى العمل الجاد من أجل خلاص إنساننا وسلامة مجتمعاتنا، وبناء مستقبل أبنائنا باشاعة ثقافة التعارف والإعتراف والعمل من أجل دولة المواطنة على كل المستويات، وأن تحكم هذه الثقافة جميع جوانب حياتنا التربوية والثقافية والإعلامية والإعلانية لنحكم أمر بنياننا المهدد، بنفوذ العواصف إليه من كل اتجاه قبل أن تقتلعنا جميعا، فقد تعددت مداخل الشر”.
وختم: “مرة أخرى نتوجه بالشكر الجزيل لسعادة سفير دولة الإمارات العربية المتحدة على هذه الدعوة، وعلى هذه الجهد كما أتوجه بخالص الشكر والتقدير لدولة الإمارات العربية المتحدة التي كانت وما زالت محل الأمل للبنانيين، وقد فتحت لهم أبوابها في أوقاتهم الصعبة، ونؤكد مجددا أن اللبنانيين أوفياء لها، حريصين على تعميق أواصر التواصل معها، متذكرين دائما حكمة مؤسس الدولة المرحوم الشيخ زايد بن سلطان”.
الحسن
وقال الشيخ حسن: “آن الأوان للوقوف أمام المشهد الشامل لما يمكن أن نسميه اليوم “الاستجابة الحضارية” للأمة في وجه التحديات الكبرى التي تواجهها، لا سيما في مسألة تشويه المعاني والمقاصد الحقيقية للدين الحنيف، وإلصاق صورة مجتمعاته بالتطرف والغلو وصولا إلى الإرهاب”.
اضاف: “يأتي موضوع لقائنا في غاية الانسجام مع المؤتمرات واللقاءات التي تمت خلال العقد الأخير من السنوات برعاية قادة مستنيرين، ومؤسسات كريمة ذوات خلفية أممية كالأزهر الشريف ورابطة العالم الاسلامي ومنظمة التعاون الاسلامي ومركز الملك عبد الله العالمي للحوار وغيرها. وتمحورت أعمالها حول مواضيع في غاية الإهمية منها: تجديد الخطاب الديني، ومواجهة التطرف، وتصحيح المفاهيم، والحرية والمواطنة وثقافة السلام العالمي إلخ… وأخيرا وليس آخرا: مؤتمر “الوحدة الإسلامية ومخاطر التصنيف والإقصاء” الذي انعقد منذ أيام في مكة المكرمة وتضمن بيانه الختامي توثيقا لما ورد في الكلمة الملكية عن التضامن من أجل خير الإنسانية جمعاء، واستيعاب سنة الاختلاف ومد جسور الحوار والتفاهم والتعاون، وتعزيز مفاهيم الدولة الوطنية وقيمها المشتركة، والبناء على المشتركات الإنسانية، والتقريب بين الرؤى، وترشيد ثقافة الخلاف، والعمل طبقا لوسطية الإسلام واعتداله، دون ان ننسى اعمال المجلس البابوي للحوار بين الطوائف”.
وتابع: “ما من شك في أن مفهوم “التعارف” من شأنه أن يحضر في الخاطر على الفور الآية القرآنية الكريمة “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” (الحجرات 13). ويلفت ختام الآية الكريمة “إن الله عليم خبير” إلى أن سابق علم الله تعالى، وحكمته التامة في الخبرة بالناس ومصالحها، كانا في صلب المقاصد البعيدة منها، وبالخصوص ما أراده عز وجل من الفعل “لتعارفوا”.
واشار الى ان “التعارف في المفهوم التوحيدي يعني لا تفاخر ولا تناكر، ويتطلب حتما الصدق والأخلاق وآداب السلوك وحسن المعاملة، التعارف يعني التعايش السلمي واحترام الآخر”. وقال: “نحن ندرك اليوم، في عالمنا المعاصر، كم تبدو الصورة مخيفة لو لم تكن مبادئ التعارف والتعرف والحوار والإقرار بالحقوق الإنسانية والكرامة البشرية من الأمور المتفق عليها بين الأمم، يتمايز منها من يلتزم بها بمصداقية وشرف عن أولئك الذين يسخرونها شعارات فارغة لغايات غير شريفة من التسلط والظلم وانتهاك الحقوق، أي بفراغ القلب والوجدان والضمير من الحد الأدنى للتقوى التي بها يكون الإنسان إنسانا بالمعنى الحق”.
اضاف: “لا يمكن ولا يصح أن تستقيم المقاربة الفعالة في هذه السياقات كلها إلا بالتفهم السديد لمعنى “المواطنة” في زمننا هذا، وفي كل حال، فإن هذا المعنى يلتقي في جوهره بما أرساه الرسول صلى الله عليه وسلم في “عهد المدينة” في اعتباره أن كل الفئات المؤمنة في المجتمع الإسلامي الناشئ “أمة واحدة” من دون نفي ذلك الاعتبار عن غيرهم “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين” (هود 118)”.
ورأى “ان المواطنة تعني المحافظة على قيمنا ومثلنا الاسلامية المسيحية المبنية على الإيمان بالله الرحمن الرحيم، بالله المحبة، بالنعمة التي أوجد بها الإنسان قادرا على معرفة الآخر ليكون له مرآة روح، وإمكان شراكة في الوجود الحي، على النقيض تماما من كل نوازع النفس الأمارة التي تسترخص القتل منزلقة بذلك إلى مهاوي العنف والبغضاء والصراع والأذى والإرهاب”.
وقال: “في هذا اللقاء الميمون، أتقدم بالشكر الجزيل من صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، ومن دولة الإمارات قيادات وشعبا، ومن سعادة السفير لما عهدناه منهم من سياسات حكيمة وداعمة لوطننا العزيز والتي عادت وتعود على اللبنانيين جميعا بالخير والبركة، بل على أمتنا العربية جمعاء. وراجيا أن يتعافى وطننا لبنان وأن يكون له حكومة قوية جامعة كي يتمكن مع كل الذين يريدون له الخير والفلاح، من الصمود والمضي قدما في تثبيت دولته الوطنية العادلة، سائلين الله تعالى أن يسدد خطى المخلصين، وأن يرفدهم بألطافه وعونه، إنه هو الحليم الحكيم”.
كلمة عودة
وألقى الأب خير الله كلمة المطران عودة، فقال: “لقد شرفني صاحب السيادة المتروبپوليت الياس عودة الجزيل الاحترام بأن أتكلم نيابة عنه في هذا اللقاء الكريم، وحملني إليكم سلامه”.
أضاف: “فيما كنت أتأمل في الآفاق التي يفتحها علينا موضوع هذا اللقاء الكريم، حضرتني من الإنجيل المقدس هذه الحادثة: كان السيد المسيح داخلا كفرناحوم، وكان في المدينة ضابط روماني مرض أحد خدامه وشارف على الموت، وكان الأحب إليه. وإذ سمع الضابط بأن السيد المسيح في الجوار، وبآيات الشفاء التي كانت تجري على يديه، أرسل إليه شيوخ اليهود يسألونه أن يأتي ويشفي خادمه. لم يعتبر الضابط الوثني والممثل لسلطة الاحتلال نفسه مستحقا أن يأتي بنفسه إلى المعلم، ولا أن يدخل المعلم بيته. لكن شيوخ اليهود، على تشددهم القاسي في حفظ شرائع الدين، أتوا إلى السيد المسيح “باجتهاد قائلين: إنه مستحق أن يفعل له هذا، لأنه يحب أمتنا وقد بنى لنا المجمع” (لوقا 7: 1-10). المتشددون في التدين حتى الغلو غالبا، رأوا في هذا الغريب المرفوض من دينهم وأمتهم، قريبا بل أخا في الإنسانية، بينهم وبينه شركة في الحياة وإلفة ومودة وسلام. في وسط هذه الشركة، تجلت رحمة السيد وشفي الخادم. طبعا ليست وساطة الشيوخ ما دفع السيد المسيح إلى أن يشفي الخادم. ولا حتى ما أبداه الضابط الروماني من إيمان فاق، بحسب شهادة السيد المسيح، إيمان اليهود. لقد بادر السيد المسيح وشفى الخادم المريض بدافع من محبته ورحمته”.
وتابع: “حضرتني أيضا الآية الكريمة من سورة “الحجرات” وتقول “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير”. الناس كلهم، إذا، من الخالق الأوحد مخلوقون. من صلاحه ومحبته خلقهم، وبفائق حكمته شاء أن يتنوعوا لكي يتعارفوا، لكي يعرف الواحد الآخر فيغتني به معرفة ويغنيه، وكلما ازدادت المعرفة زال التقوقع والنبذ وفكر العداوة وحتى الخوف. إذ ذاك فقط يتحقق اعتراف الكل للكل وبالكل، أنهم معا أمام الله متساوون، وأنهم معا في الكرامة والحقوق أيضا متساوون. في هذا السياق عينه، إن أكرم الناس عند الله أتقاهم، فالتقى هو الطاعة لله معاشة في الإلفة والمودة والسلام، في شركة الحياة التي قسمها الله لنا. “من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟”، يقول الرسول يوحنا في رسالته الأولى (1 يوحنا 4: 21). كذلك، قال أحد كبار نساكنا “إن لم تر وجه الله في الآخر، فعبثا تبحث عنه أو تدعي حبه”.
وتابع: “نأتي إلى مسألة “قبول الآخر”. قد ينطوي هذا المفهوم على شيء من تنازل أو استعلاء، وكأن لـ “القابل” منة على “المقبول”. شركة الحياة في الإلفة والمودة والسلام، التي هي الحاجة الأمس للإنسانية اليوم، تتطلب رفع سقف “قبول الآخر” إلى مستوى “الإقبال نحو الآخر”. أي لا أن يكتفي بقبول الآخر بما يشبه الهدنة أو حالة عدم الاعتداء. الاكتفاء بهذا، وإن كان يرسي بين الجماعات المتنوعة سلما، إلا أنه لا إلفة فيه ولا مودة ولا سلام. أما الإقبال نحو الآخر، ففيه مبادرة وانطلاق، وفيه ضمنا اعتراف الواحد للآخر بأحقية الوجود وبالتساوي في الكرامة، هو الإقبال على اكتشاف الآخر للتعارف الذي فيه اغتناء للكل. هنا تتثبت الأسس لشركة الحياة، التي يتحقق إذ ذاك بناؤها بالتكامل في الإلفة والمودة والسلام. الإقبال نحو الآخر يعني ألا نرى في الآخر مجرد اختلاف في الدين أو العقيدة أو العرق بل مدى جديدا للمعرفة، ومجالا للتكامل والتناغم تحقيقا للخير العام”.
وقال: “طبعا في ذهنية التقوقع والتنكر للآخر المختلف، خاصة في المجال الديني، لا مكان البتة لمفهومي التكامل والتناغم، بل هما مرفوضان أصلا. علما أن الشعور الديني هو شعور نبيل، إذ هو في الأساس ميل إلى الفضيلة وابتغاء لوجه الله، أي ميل إلى البذل ونكران الذات وخدمة الآخر، وإلى الرحمة والسلام وكل خير وصلاح. كل الأديان أجمعت على هذه، وعلى غيرها من الفضائل والسبل إلى وجه الله. المشكلة إذا ليست في الأديان أو في ما تدعو إليه، بل في بعض المتدينين، من هنا وهناك، الذين لعلهم أخفقوا في فهم “من هو الآخر”. يوم أتى شيوخ اليهود يجادلون السيد المسيح في “من هو القريب”، أعطاهم السامري مثلا، ومعلوم أنه كانت بين السامريين واليهود آنذاك عداوة سياسية ودينية وعرقية”.
وأشار الى انه “ثمة واقع في العالم اليوم أنه، عمليا، ليس هناك ديانة واحدة أو ثقافة واحدة تضم الإنسانية جمعاء، لكن هناك إنسانية واحدة تضم الأديان والثقافات والانتماءات جمعاء، ولعل هذا بمشيئة الله وحكمته تعالى، والناس كلهم من صلاحه ومحبته مخلوقون. وبالرغم من هذا، وبالرغم من أن الأديان كلها تجمع على السعي إلى الفضيلة وإلى كل خير وصلاح، شهدت الإنسانية مرارا، على مدى التاريخ وفي زماننا الحاضر، من هذه الجهة أو من تلك، الشعور النبيل الذي هو الشعور الديني ينتج حقدا بلغ أحيانا أبشع أشكال الوحشية”.
وقال: “بتنا أيضا نرى التدين ينتج فكرا ينتحل صفة الديني، يناقض تماما سعي الأديان إلى إرساء الفضيلة والخير. أما في الأسباب، فلا يجد المنطق مسببا لكل هذه سوى الجهل. جهل الآخر بدل التعرف إليه، وسوء فهم الدين الذي هو أيضا جهل. بديهي إذا، أن الخطاب الديني المطلوب هو خطاب تناغم في ما يجمع بين الأديان، خطاب دعوة إلى الخروج نحو الآخر، أحمل إليه ما عندي ويغنيني بما عنده. خطاب تناغم ووئام يترجم سلوكيات ويتابع حثيثا. على الجماعات الدينية المتنوعة أن تتناغم، بل وأن تتكامل، في عيش المحبة والرحمة والسلام وكل خير وصلاح، التي كلها في الأساس تجمع عليها. بقدر ما سبب التنافر الديني من مآس وآلام، بقدر ما سيكون الخير الآتي به الوئام بين الأديان، إلى الإنسانية جمعاء، عظيما”.
اضاف: “هل يعني هذا أن على المرء أن يتخلى عن انتمائه الديني أو عن مبادئه العقائدية؟ قطعا لا. بل على العكس تماما. الصدق والأمانة لا يعيقان المحبة بل هما ملازمان لها، أما التنازل عن المبادئ، مهما بدت مبرراته حميدة، هو في الحقيقة خبث وتكاذب.. (أرجوكم اعذروني على التعبير). فهم الدين فهما صحيحا هو ما يحرر المرء من التقوقع في “زاويته الآمنة”، فلا يخيفه الإقبال نحو الآخر والتعرف إليه وصولا إلى الاعتراف به والتكامل معه في الإلفة والمودة والسلام. فهم الدين فهما صحيحا يحرر من أهواء القسوة والتصنيف ونبذ الآخر المختلف. علمنا السيد المسيح أن “لا تدينوا فلا تدانوا. لا تقضوا على أحد فلا يقضى عليكم. اغفروا، يغفر لكم” (لوقا 6: 37). في اللحظة التي فيها أسمح لنفسي، أنا المسيحي، أن أصنف الناس بين آخر قريب (لأنه يلائمني) وآخر مرفوض (لأنه لا يقول قولي) أضع نفسي للتو تحت حكم الإدانة. المعادلة بسيطة، لغتها واضحة لا تحتمل تأويلا ولا سوء فهم”.
وتابع: “بديهي، أنه كلما اقترب أبناء الأديان المتنوعة من بعضهم، وجدوا بينهم فوارق عقائدية. في ذهنية التعصب والانغلاق، هذه الفوارق لدى الآخر سبب لتكفيره. أما في ذهنية الإقبال نحو الآخر فهي ليست “فوارق” تفرق بل “خصائص” للتعارف، من أجل التكامل في شركة الحياة. ليس مطلوبا أن يتنكر المرء لهويته الإيمانية ولا حتى أن يموهها. المطلوب هو السعي الدائم إلى أرضيات مشتركة ومفاهيم متبادلة، وإبرازها وتحصينها والاستثمار فيها. هذا هو المسعى إلى التناغم بين الجماعات الدينية المتنوعة، أو عقد الشراكة إذا جاز التعبير، لشركة الحياة التي قسمها الله لنا.
– مفاهيم البذل ونكران الذات وخدمة الآخر، والرحمة والسلام والخير للانسان، لعلها أهم الأرضيات المشتركة والتي متى أقر الكل أنها تجمع ولا تفرق، يبنى عليها الكثير، وهي موجودة في الشرائع والنصوص المقدسة كافة.
– الإقرار الجماعي بإرساء الاحترام المتبادل كحاجة حيوية لإنماء الإلفة والمودة والسلام. كلما صار هذا الاحترام مشتركا ومتبادلا، سهل على الناس التعارف وإقبال الواحد نحو الآخر، وتضاءل المدى المتاح للحقد والكراهية، إن في الخطاب أو في السلوك.
– الإقرار الجماعي بحصرية الوسائل السلمية في حل الخلافات، وأهمها المبادرة السريعة إلى الحوار الصريح الموضوعي، كلما استدعت الحاجة.
ظننا أن هذه كلها متى تحققت، تشكل منهجية حسنة التماسك لثقافة التعارف والاعتراف والإقبال نحو الآخر، وصولا إلى شركة الحياة في الإلفة والوئام والسلام. “الرحمة والحق تلاقيا، العدل والسلام تلاثما”، يقول سفر المزامير (85: 10)”.
وختم: “في الخلاصة، غني عن القول، أنه كلما عم الوئام الديني ازداد الخير للبشرية جمعاء، وضاقت المساحات المتاحة للحقد والكراهية والتنافر بين الناس، واتسعت الأرض لشركة الحياة. إذذاك تصبح الأديان محفزة لشركة الحياة هذه ومغذية لها بدلا من أن تكون، بغياب هذا الوئام، سبب تمييز بين الناس وتباعد وانغلاق. غني أيضا عن القول إننا كلنا، مسيحيين ومسلمين، ننشد للانسان كل خير وصلاح، وعلى الأخص الحرية التي إن أحسن الإنسان استعمالها ابتعد تلقائيا عن الشر. هذا السعي لا يمكن أن يكون خارج المحبة التي هي الذي يجمعني بالله وبأخي الإنسان، والمحبة لا تكون صافية ما لم أبتعد عن عبادة نفسي لكي أرى الله. المطلوب إذا توبة جماعية إلى الله، في وجه الذين خلقهم الله من صلاحه ومحبته… وليترأف الله علينا جميعا وليباركنا، وليضئ بوجهه علينا ويرحمنا، آمين”.