….عدت إلى هذا المكان بعد أربعة عقود مضت ، إلى شعاب الجبل الذي يفصل أرض قريتنا عن الأراضي السورية ، وفي مواجهة قرية جديدة يابوس الحدودية التي تتراءى لي من البعيد ، ووقفت في نفس المكان الذي وقفت فيه أيام الصبا ضمن مجموعة من الرفاق ، أفتش في زوايا ذاكرتي عن صدى لتلك الأيام الجميلة ، حينما كنا نقوم برحلات ربيعية إلى آثار “القصر” وهي قلعة وأعمدة رومانية في جبلنا ، وفوقها بركة دائرية تتغذى من ذوبان الثلج بعد انقضاء فصل الشتاء ، يزينها العشب الأخضر وتجف مياهها صيفا ، وكنا نقضي ساعات النهار في اللهو واللعب بقربها ونتسلق أعمدة القصر الروماني ، وفي طريق عودتنا إلى قريتنا الوادعة ، كنا نقطع سفح جبل كان موطنا لأشجار السنديان والملول ، ويتوسطه جرف صخري يرتفع بشكل جدارعملاق يطلق عليه أهل قريتنا إسم “مبرك الجمل” يشكل ظلا كبيرا ويحجب أشعة الشمس من الصبح حتى وقت الغروب ، لتتلاشى خيوطها الذهبية عنه معلنة إنتهاء النهار ، فيصمد الثلج في الظل إلى فصل الربيع ، وكنا نجمع في طريق عودتنا ما يمكننا حمله من الثلج في كيس ، ندسه قبل الإنطلاق صباحا في جيبنا أو في ثنايا ثيابنا ، لنصنع منه ” البقسما” وهي خليط من الثلج مع دبس العنب ، شبيهة بإختراع ال “فريسكو” الحديث . وغالبا ما كان يصل ما نحمل من الثلج ذائبا إلى حد كبير ، ولكن هذا الأمر لم يكن ليثنينا عن المحاولة في كل مرة دون كلل أو ملل ..!
أما لماذا بقيت هذه الرحلة بالذات في الذاكرة من دون مثيلاتها التي طواها النسيان ، فذلك لأننا صادفنا في رحلتنا تلك ، وبعد ساعات عديدة من المشي المتعب على شعاب السلسلة الشرقية التي تفصلنا عن الأراضي السورية ، راعيا للماعز وقد فرش “الزوادة” وقت الظهيرة عند جذع سنديانة عتيقة ، وسط قطيعه الذي كان يرعى بهدوء وطمأنينة ، ووضع المنجارة جانبا وأسند الى ظل جذع السنديانة مطرة مياه كبيرة مغلفة بالقماش السميك للحفاظ على برودتها . وكان الجوع قد أخذ منا كل مأخذ .
كان غداء الراعي وعاء معدنيا كبيرا مليئا باللبن ، وبضعة أرغفة من الخبز المرقوق اليابسة تماما ، ورأس بصل جبلي وبضع حبات من الزيتون … دعانا الرجل إلى مشاركته الطعام فشكرناه بأدب ، ولكنه أصر على الدعوة بعزة نفس كبيرة قائلا “تفضلوا على ما قسم الله لنا من رزق “.
أذكر أنني كنت أول من لبى الدعوة شاكرا ، ومددت يدي لآكل من رغيف الخبز اليابس مغمسا باللبن ، لعله كان ألذ طعام تناولته في حياتي ، لقد ذقت فيه طعم القناعة والمروءة والكرم ..!
عاطف البعلبكي
[email protected]