أكثر ما أقلق اللبنانيين في أزمة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري التي لم تنته فصولاً بعد بانتظار جلسة الخميس المقبل والبيان المرتقب الذي سيعالج موضوع النأي بالنفس وعلاقات لبنان في محيطه العربي وتبني الكتل والتيارات والاحزاب السياسية لهذا الموقف من بعدها، هو التدهور الطارئ في علاقات لبنان مع دول الخليج وتحديداً المملكة العربية السعودية.
واذا كانت الأزمة في شقها الداخلي قيد المعالجة مؤقتاً بتعويم الحكومة على أساس «النأي بالنفس» أقليمياً، فان الأزمة في شقها الخليجي ما زالت قائمة وتحتاج الى مقاربة مسؤولة وجدية.
– لماذا القلق على مستقبل العلاقات «اللبنانية – الخليجية»؟
اللبنانيون على حق ان هم شعروا بالقلق والخوف على واقع ومستقبل العلاقات مع الخليج عموماً والسعودية خصوصاً، وهذا القلق مبرّر ومشروع لسببين على الأقل:
1- تميزت العلاقات اللبنانية – الخليجية دائماً بالدفء والحرارة والود والثقة ولم يحصل أن كان لبنان يوماً موضع شكوى واحتجاج من قبل دول الخليج أو كان مصدر تهديد لأمنهم ومصالحهم، ومن اليوم الأول للأزمة، استشعر اللبنانيون ان هناك أمراً غير عادي يحصل وسيصيب علاقة لبنان ببلدان الخليج في الصميم اذا تركت الأمور على سجيّتها ولم يصر الى ضبطها واحتوائها حتى لا يتحول الخلل الى عطب ولا تتحول الأزمة الطارئة الى ازمة متمادية.
2- العلاقات تكتسب أهمية خاصة وطابعاً مميزاً لان اللبنانيين كان لهم «دور مؤسس» في الخليج وساهموا بمهاراتهم وتفوقهم العلمي وخبراتهم المكتسبة في مسيرة البناء والتطوير التي كانوا من صانعيها والمواكبين لها في كل المراحل والمحطات، ولأن الخليجيين كان لهم دور ريادي في تنمية لبنان وأزدهاره وسياحته وفي كل مشاريع الانماء ومحطات الأعمار بعد كل عدوان اسرائيلي، ومثلما اتخذ اللبنانيون من دول الخليج مركزاً لأعمالهم وأنشطتهم الأقتصادية والمالية أتخذ الخليجيون من لبنان بلداً ثانياً لهم فاشتروا بيوتاً ومساكن وشيدوا القصور والفيلات واستثمروا في عدة مشاريع ومرافق.
اضافة ان هناك خصوصية في علاقة لبنان مع دول الخليج ليست موجودة في أي علاقات عربية أخرى ويكفي ان نلقي نظرة على واقع العلاقات الاقتصادية «اللبنانية – الخليجية» ليتبيّن لنا حجم الضرر الذي يمكن ان ينجم من جراء تدهور العلاقات :
– هناك أكثر من 500 ألف لبناني يعملون في دول الخليج تشكّل تحويلاتهم نحو 60% من مجمل التحويلات الى لبنان، وتأتي 50% من هذه التحويلات من اللبنانيين العاملين في السعودية حيث يقدّر عددهم بنحو 300 ألف لبناني. كما تمثّل الاستثمارات المباشرة من رعايا البلدان الخليجية ما بين 75 و80% من إجمالي الإستثمارات الأجنبية المباشرة في لبنان، ويستحوذ اللبنانيون العاملون في دول الخليج على حصّة أساسية ومهمة من أجمالي المودعين غير المقيمين في المصارف اللبنانية.
لكل هذه الأسباب ونظراً للأهمية الفائقة للعلاقات الثنائية ودقّة الأزمة الراهنة وتداعياتها الحاصلة والمحتملة، فإن العلاقات «اللبنانية – الخليجية» بحاجة الى رعاية وصيانة عاجلة والمسألة لا تحتمل إهمالاً.
لقد استبشرنا خيراً بجملة مؤشرات وتطورات حصلت في الفترة الأخيرة وكان ابرزها تعيين سفير سعودي جديد في لبنان هو وليد اليعقوب، ولكن رغم ذلك فان الأزمة لا تزال مستمرة ولا يجوز التقليل من شأنها وتحتاج الى نمط غير تقليدي في المعالجة.
– محاولات لإعادة وصل ما انقطع …
المعلومات تؤكد ان هذا ما بدأ فعلاً ويعمل له بعيداً عن الاضواء، من اجل ان يكون ما حصل مؤخراً هو «سحابة صيف».
إذاً العودة الخليجية الى لبنان بدأ العدّ العكسي لها مع وجود محاولات ومساعٍ مخلصة لوضع هذه العلاقات على السكّة الصحيحة، المعلومات التي لا تزال شحيحة وبعيدة عن الاضواء والاعلام تقول ان الوزير السابق الياس بو صعب مستشار رئيس الجمهورية لشؤون التعاون الدولي صديق الامارات وصاحب السمعة الطيبة والمحترمة في هذا البلد يعمل على هذا الخط، وذلك بايعاز وتكليف من رئيس الجمهورية ميشال عون وبالتنسيق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وبالتفاهم مع وزير الخارجية جبران باسيل… ويعمل على خط موازي سفير دولة الإمارات في بيروت حمد الشامسي المتحمس جداً لعودة العلاقات الى طبيعتها والذي يؤدي دوراً هاماً في هذا الاتجاه وذلك بإيعاز وتكليف من القيادة في الامارات وبإشراف مباشر من وزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور انور قرقاش…
الياس بو صعب مؤمن ومقتنع بأنه لا مجال ان تبقى هذه العلاقات في تأزّم ورهينة شكوك وهواجس، وأن لبنان لا يمكن له في أي حال من الأحوال أن يخرج من انتمائه العربي والتزامه بميثاق جامعة الدول العربية التي لها فيها دور مؤسس وفعّال… من هنا أخذ على عاتقه هذا الملف الدقيق، وتفيد المعلومات انه التقى خلال زيارته الاخيرة الى الامارات شخصيات رفيعة المستوى للبحث في هذا الموضوع، وانه التقى فور عودته رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ووزير الخارجية ووضعهم في اجواء زيارته ولقاءاته.
حمد الشامسي الرجل المميز والديبلوماسي المخضرم والمحب للبنان من دون حدود وتحفظ يعمل بقوة في هذا الاتجاه كونه يريد افضل وامتن العلاقات بين لبنان ودول الخليج ، وقد كان لافتاً بالامس وخلال العيد الوطني لدولة الامارات التي اقامته السفارة في بيروت الحضور غير المسبوق من شخصيات وقيادات وسياسيين يمثلون كل التوجهات السياسية والطائفية والحزبية اللبنانية وهذا ان دل فهو يدل على التقدير لدور الامارات وقيادتها وسفيرها تجاه لبنان.
في الختام … كلنا امل ان تعطي الجهود التي يقوم بها الياس بو صعب وحمد الشامسي بتوجيهات من قيادة بلديهما ثمارها المرجوة وتضع حدّاً لموجة التشاؤم والقلق الذي نعيشها، وتسرع في انفراجات على المستوى اللبناني الخليجي من البوابة الإماراتية الواسعة والمحبة، وان تكون فاتحة هذه الانفراجات السماح للاماراتيين العودة الى وطنهم الثاني لبنان.
دافيد عيسى * سياسي لبناني
المصدر_الديار