خاص – nextlb – معين البسط *
طائرة كونكورد الأسطورة ، الحلم الجميل والمستحيل الذي يراود النفس في كل زمان ومكان ، تحفة فنية وهندسية بكل ما للكلمة من معنى ، ها هي تجثم بوقار وهيبة في متحفها الخاص بالقرب من مطار أورلي الفرنسي ، وقد سنحت الفرصة لنا مؤخراً بالدخول اليها والجلوس في مقعد قائدها ، والتعرف عن كثب على إحدى أهم نماذج الطيران التي صنعها الإنسان خلال تاريخ الطيران منذ اختراع الأخوين رايت للطائرة في عام 1903 ، عندما حلق أول إنسان فوق الأرض بجناحين إصطناعيين بعد محاولة العالم العربي عباس بن فرناس الشهيرة للطيران في القرن الثامن الميلادي بجناحين متحركين .
كان حلم إنتاج طائرة تخترق حاجز الصوت ممكن التحقيق عبر صنع طائرة حربية في نهاية ستينيات القرن الماضي وليس بعيد المنال ، ولكن الحلم المستحيل حينها كان استخدام هذا الإختراع الحربي في نقل الر كاب ، وبات هذا الحلم ممكن التحقيق مع هذا النسر العملاق الذي يبلغ طوله حوالي 62 متراً وارتفاعه 12 متراً ، إذ سيتمكن من نقل مجموعة محظوظة من الركاب وبخاصة من فئة رجال الأعمال ، وطي الزمن والمسافات بسرعة صاروخية تفوق سرعة الصوت ، تماماً كأي طائرة مقاتلة ، فقد اختصرت كونكورد وقت الطيران السريع أصلاً في مطلع السبعينيات فكانت توفر نصف الوقت في المسافة المقطوعة بين باريس أو لندن وبين نيويورك التي كانت تقطعها خلال ثلاث ساعات ونصف بسرعة تتجاوز 2000 كلم في الساعة ، وقد تصل مع الجو المؤاتي الى 2200 كلم في الساعة مع مدى طيران يزيد قليلاً عن 7000 كلم ، بينما كانت الطائرات النفاثة التجارية تحتاج الى حوالي 8 ساعات لقطع نفس المسافة ما بين باريس ونيويورك .
كونكورد في مطار بيروت
وقد حطت طائرة الكونكورد الشهيرة في مطار بيروت الدولي في عام 1973 بعد رحلة إستغرقت ساعتين فقط من العاصمة الفرنسية باريس إلى بيروت ، وأقلعت ثانية بإتجاه الشرق لترى كوميض أحمر مر بشكل خاطف فوق سهل البقاع وإتجه شرقاً محدثا دوياً هائلاً ، بينما كانت الرحلة بالطائرة النفاثة العادية تستغرق حوالي 4 ساعات بالسرعات العادية للطائرات التجارية التي تتراوح ما بين 700 و800 كلم في الساعة بين باريس وبيروت .
وقد نشرت صفحة “Old Beirut” على موقع فيسبوك صورة تظهر طائرة الكونكورد الفرنسية الشّهيرة يوم حطّت في مطار بيروت، وذلك في عام 1973 وبقربها رجل أمن لبناني .
خلف مقود كونكورد
لعل أهم ما يميز تصميم كونكورد الخارجي عن أي طائرة نقل ركاب أخرى، هي إنسيابيتها التي تضاهي الطائرات الحربية ، وهذا من أهم العوامل التي جعلتها تسير بأكثر من ضعفي سرعة الصوت ، طبعاً إضافة إلى محركاتها الأربعة الجبارة التي ترتفع بها إلى 3500 قدم في أقل من دقيقة بعد الإقلاع.
والنموذج المعروض بالقرب من مطار أورلي كان النموذج الإختباري من الطائرة ، وقد تقاعد طاقمها، وتفرغ أفرادها لعرضها أمام الزوار ، وعندما تقترب من جسم الطائرة العملاق ، تأخذك الرهبة من الشكل الهجومي والإنسيابية الهائلة للمقدمة الدقيقة جداً كرأس سهم فولاذي معد لإختراق الهواء دون أية مقاومة تذكر ، هذا الراس الدقيق كمنقار النسر كان يتحرك نزولاً مع المقدمة ومقصورة الربان ، لكي يتيح لقائد الطائرة وملاحة رؤية المدرج عند الإقلاع والهبوط ، وأكثر ما يبهرك من الداخل هو قمرة القيادة، التي تحتوي مقعدين للطيار ومساعده ، ومقعداً لمهندس الطيران الذي يهتم بالمحركات والتغذية بالوقود وضغط الزيت والحرارة والأنظمة الهيدروليكية ، وكل الأنظمة التقنية الأخرى.
ونظراً لأن الطائرة صممت وصنعت في نهاية ستينيات القرن الماضي ، حيث كانت أنظمة التحكم لا تزال في مرحلة مختلفة عن يومنا هذا، فإنك تجد المئات من الأزرار والمقابض والشاشات الكبيرة والصغيرة التي تملأ القمرة.
أما عن أسلوب طيرانها فهي كانت تقلع بشكل شبه عامودي خارق وبسرعة إقلاع تصل إلى قرابة 400 كلم في ساعة ، لتضاعف من سرعتها بعملية فيزيائية معقدة وتخترق حاجز الصوت وتنطلق على ارتفاعات شاهقة تبلغ مابين 16.000 و 18.000 متر ، لتصل الى سرعة قياسية تزيد عن ضعفي سرعة الصوت ، وتسجل أكثر من 2000 كلم في الساعة ، وتهبط على المدرج بمساعدة عجلاتها الخلفية الضخمة المصنوعة بتقنية متطورة ، والتي كانت قادرة وبجدارة على تحمل الضغط الهائل من المحركات الصاروخية النفاثة الأربعة المصنوعة لدى رولس رويس ، وكانت تنطلق كطائر كاسر ينقض على فريسته بثوان معدودة ، وتعمد الى تجاوز سرعة الصوت بعدة مرات ، وقال أحد الطيارين الحربيين لنا بأنه كان يجد صعوبة كبيرة للحاق بالكونكورد عند الإقلاع عندما كان يواكبها بطائرته المقاتلة في الإستعراضات التي شاركت فيها خلال حياتها التي امتدت عملياً الى أكثر من ثلاثة عقود إبتداءً من اول طيران لها في عام 1969 وحتى إيقافها نهائياً وإخراجها من الخدمة في عام 2003 . ورغم أنها تخطت الخمسين من عمرها، إلا أنها لا تزال تحفة فنية وهندسية تسر الناظرين .
النهاية الحزينة
هناك عدة أسباب تظافرت لتقضي على حياة هذه الطائرة التي سبقت عصرها وهي تخترق الأجواء وتصدر ضجيجاً صارخاً ، غالباً ما كان يتسبب بتصدع زجاج المنازل القريبة من مدرج المطار ، مع النسبة العالية من تلويث محركاتها التي صممت في نهاية الستينيات ، ولعل هذه الأسباب كانت الدافع لإيقاف رحلاتها وبخاصة بعد الكارثة التي حلت بإحدى نماذجها خلال عام 2000 وأدت الى سقوطها ومقتل كل ركابها في محاولة إقلاع من مطار شارل ديغول – رواسي .
وكانت الكونكورد خلال خدمتها التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود ، تقوم بخمس رحلات أسبوعية بين باريس ونيويورك في وقت قياسي يقل عن 4 ساعات، في حين أن الوقت الذي كانت تقطع فيه أفضل الطائرات التقليدية، نفس المسافة كان بحدود 8 ساعات ، فقد كانت تحط عند الثامنة صباحاً في مطار كينيدي حسب التوقيت الأميركي وتغادره عائدة إلى فرنسا عند الساعة الحادية عشرة .
وكانت بداية النهاية مع إحدى أشهر الطائرات التي أنتجت خلال التاريخ إذ سقطت إحدى نماذجها ال 19 التي تم صنعها خلال حياتها الطويلة نسبياً في 25 تموز يوليو من عام 2000 بعد لحظات قليلة فقط من إقلاعها من مطار شارل ديغول الفرنسي واصطدمت بأحد الفنادق القريبة من المطار، وقتل كل ركابها ال 113 لسوء الحظ ، لتوقف الشركة الفرنسية رحلات الكونكورد بعدها لمدة تزيد عن عام ، وقالت التحقيقات حينها بأن عجلات الطائرة إصطدمت بقطعة معدنية على المدرج من طائرة أميركية سبقتها في الإقلاع ، وتشقق إطارها الذي أصابت شظاياه المحرك النفاث الذي اشتعلت فيه النيران مما أدى الى احتراقها وسقوطها المأساوي .
وقررت الخطوط الجوية الفرنسية إيقاف رحلات طائرات الكونكورد في 31 أيار مايو2003 بسبب ارتفاع تكاليف تشغيلها وتراجع الطلب عليها، كما كان من المقرر أن تنهي شركة الخطوط الجوية البريطانية هي الأخرى تحليق الطائرة من لندن، أيضًا في شهر تشرين الأول أكتوبر من ذلك العام، لينهيا معاً أسطورة الطائرة التجارية الأسرع من الصوت ، كما بدآها معا منذ ما يزيد عن أربعة عقود ، عندما قامت الحكومتان الفرنسية والبريطانية بتوقيع اتفاقية مشتركة لتصميم وإنتاج أول طائرة مدنية أسرع من الصوت تصنعها لهما شركة إيرباص في عام 1962 ليبصر النور أول نموذج منها في عام 1969 وبالإضافة الى طائرة الكونكورد قام الإتحاد السوفياتي السابق بإنتاج طائرة مشابهة ل كونكورد هي طائرة توبوليف تي يو 144. وكانت الأولى من إنتاج فرنسي بريطاني مشترك ، والثانية من صنع الإتحاد السوفياتي في ذلك الحين . وكان دخول كونكورد الخدمة في 21 يناير كانون الثاني من عام 1976 وإنتهاء الخدمة في 26 نوفمبر تشرين الثاني من عام 2003 بينما كان أول طيران لها في 2 مارس آذار من عام 1969للمستخدم الأساسي الخطوط الجوية الفرنسية .
كونكورد طائرة الأرقام القياسية
كان جسم طائرة كونكورد قابل للتمدد من 6 إلى 10 إنش أثناء الطيران بسبب الحرارة الشديدة لهيكل الطائرة من جراء سرعتها الهائلة . وقد طلي باللون الأبيض المصنوع من طلاء خاص تم تطويره كي يناسب التغيرات التي تطرأ على الهيكل بفعل الحرارة الشديدة الناتجة عن إختراق الهواء بسرعة تزيد عن 2000 كلم في الساعة ، إضافة إلى قدرته على تشتيت الحرارة الناشئة عن الطيران بسرعة تفوق ضعفي سرعة الصوت.
المصدر : خاص
* مهندس ميكانيك
.