استقبل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي في الصرح البطريركي في بكركي، المجلس الجديد لنقابة محرري الصحافة اللبنانية برئاسة النقيب جوزف القصيفي الذي استهل اللقاء بالقول: “عندما ندخل هذا الصرح نستعيد صورا من ماض غابر اختلط فيه العرق بالدم، والألم بالامل، والمعاناة بالرجاء، والصدمة بالحلم، وكان فيه الأحبار الذين تعاقبوا على سدته التي أعطيت مجد لبنان شهودا وشهداء في سبيل وطن تكور جنينا في رحم الزمان، إلى أن أبصر النور في الأول من ايلول 1920، وإذا كانت فرنسا هي عرابة دولة لبنان الكبير، فإن بكركي كانت القابلة الوطنية التي شالت رأسه سليما معافى من بين ركام السياسات الدولية والاقليمية المتماوجة في مد وجزر يحوطهما الغموض والإلتباس”.
أضاف: “لكن هذا اللبنان لم يهنأ له عيش، لأننا لم نعرف ان نبني دولة على قاعدة المواطنة، المركوزة في مؤسسات، والمستندة إلى قوة القانون، فأطاحت بها المحاصصة التي أسقطت عليها لبوس الطوائف وحقوقها. ولاننا لم نتمكن من تحصين أنفسنا في وجه الصراعات الخارجية التي تهب على وطننا من دون توقف، اصبح الداخل أسير اللعبة الدولية – الاقليمية، ومن في خارج الحدود داخل حدودنا، مسقطا حصانتنا الوطنية”.
وتابع: “في آخر زيارة لمجلس النقابة إلى الديمان، قبل سنة من المئوية، سألت عن مدى نجاح صيغة لبنان الكبير في بناء وطن ودولة، وفي زيارة مجلس النقابة بعيد انتخابه، إلى رئيس الجمهورية سألت أيضا اذا كان المطلوب الوصول إلى حال من الاهتراء، يعقبها ولادة لبنان آخر مختلف؟ واذا كان الأمر كذلك: هل سيكون موحدا، أو مقسما، أو هجينا لا يشبه ابدا الوطن الذي سعى مؤسسو دولته إلى بنائه؟”.
وقال: “صاحب النيافة والغبطة، عذرا اذا أثرت هذه الخواطر أمامكم. لأنكم الأقدر على فهم معانيها وأبعادها، فأنتم مؤتمنون على تراث الأحبار البناة، وتنظرون إلى لبنان كبستان بورود متنوعة الألوان والشميم، لكنه في سجل التاريخ ووقوعاته، باقة عطرة متناغمة منسجمة في منظومة الجمال، لا بيتا بمنازل كثيرة تسوده ثقافة المعازل ، نعول على دور كبير لكم يكون جامعاً للبنانيين ومؤلفاً بين قلوبهم، كما عودنا هذا الصرح الكريم، ومن توالى عليه من رعاة حملوا بشارة القيامة في الازمنة الصعبة”.
الراعي
ورد الراعي قائلا: “نجدد تهنئتنا لك نقيب بتجديد زملائك الصحافيين الثقة بك، والشكر لك على ريشتك الذهبية. يسعدني أن أستقبلكم اليوم مجلس نقابة محرري الصحافة اللبنانية وأشكر رئيس النقابة النقيب العزيز الأستاذ جوزف القصيفي على كلمته اللطيفة التي تفضل بها بإسمكم والتي وضع فيها كل العناوين التي تختصر واقعنا في لبنان ومشاكله، والذي نعول عليكم أنتم كصحافيين، بقضايا التحرير والتحليل. نحن بتنا بأمس الحاجة أن نقرأ التحاليل الصحافية للأوضاع التي نحن فيها. الصحيفة من دون مقالات تحليلية لا طعم لها، نحن بحاجة إلى التحليل السياسي الموجه، وهنا يكمن دور نقابتكم ومجلس النقابة هو المصمم لهذا الأمر. قلت هذا الشيء لأن المجتمع اللبناني بأمس الحاجة إلى توجيه لقراءة الأحداث وتحليلها. الشعب اللبناني ضائع اليوم بين مواقع التواصل الإجتماعي وخبر من هنا وآخر من هناك وبين الأحداث المتتالية باستمرار، ونحن من هذا الشعب الذي يقرأ في الصحيفة التحاليل عن الأوضاع التي نحن فيها اليوم”.
أضاف: “أتمنى لكم التوفيق وكل منكم له قدرته ودوره البناء من أجل المجتمع اللبناني. ويهمني القول ان لبنان وشعب لبنان بحاجة للخروج من حالة اليأس والقنوط، أي بإمكان تحليل الأمور بوجهها الإيجابي ونتائجها الإيجابية للخروج من النظرة السوداية للأمور. في معظم الأحيان بات معظم اللبنانيين متشائمين ولا يصدقوا الخبر الجميل. وعلى الرغم من ذلك، نحن بحاجة إلى القيام بحملة مضادة على اللاثقة واليأس والقنوط. نحن ننظر إليكم وإلى دوركم من خلال كتاباتكم وتحاليلكم اليومية والرأي العام العالمي والداخلي ينتظر وجهة نظركم. علينا خلق تيار إيجابي للبنان ولنعمل لإيقاف التيار السلبي. لنتحدث عن الإيجابيات ولنساعد الناس، فهم ليسوا بحاجة فقط إلى خبزهم اليومي، فهم بحاجة، أيضا، إلى خبز فكري يخرجهم من يأسهم ووجعهم”.
موقف الكويت
وتابع: “أعبر عن شعور ذاتي أن الشعب بحاجة إلى الخروج من اليأس. هناك الكثير من الأحداث الإيجابية عليكم الإضاءة عليها كي لا تمر مرور الكرام. لا يمكن لنا ألا ننظر بإيجابية إلى الوفود الوزارية والنيابية التي تزور لبنان في هذه المرحلة بالذات، لهذه الزيارات قيمتها وعلينا أن نظهر ذلك. ولا يمكن لنا أن نمرر مرور الكرام الكلام الذي قاله وزير خارجية الكويت الذي، وكما قال، إنه يزور لبنان بإسم دول الخليج. ولا يمكن لنا أن نمرر كلامه أن لبنان أيقونة العرب وقوتهم. الوزير الكويتي يتحمل مسؤولية كلامه، وهو يرتكز على أن لبنان هو فعلا قوة العرب. هل لبنان قوة العرب بالسلاح؟ طبعا، لا”.
وأردف: “عليكم الدور الكبير لنجعل اللبناني يتغذى بالثقة والرجاء والأمل والتعلق بلبنان ليصمد بوجه هذه العاصفة، التي لا بد لها أن تمر، كما كل العواصف التي تأتي وتذهب. نحن في قلب العاصفة حاليا، وعلينا أن نتعاون ونتعاضد لتمر هذه العاصفة وتنتهي. هكذا أردت أن أحييكم اليوم كمجلس جديد لنقابة محرري الصحافة وعلى ثقة بكركي بكم وليس ثقتي وحدي بكم. بالثقة التي تحدث عنها النقيب القصيفي، نكمل بعضنا”.
حوار
ثم دار حوار بين مجلس النقابة والراعي الذي قال ردا على سؤال عن تعليق الرئيس سعد الحريري نشاطه السياسي: “فاجأني هذا القرار ولم أكن أنتظره شخصيا. للرئيس سعد الحريري شخصيته ودوره واعتداله، لا يمكن لنا أن ننسى السنوات التي كان فيها مسؤولا وكان يسير دائما بخط المرحوم والده ألا وهو خط الإعتدال. كما أنني لم أكن أنتظر أن تعليق العمل السياسي سيشمل تيار المستقبل. للوهلة الأولى أعتبر أن هكذا قرار سيخلق خللا في المكون اللبناني. وكنت أتمنى ألا يعلق الرئيس الحريري نشاطه السياسي وكذلك تيار المستقبل. إذا كان الرئيس الحريري له ظروفه وأسبابه، ولماذا القرار يشمل تيار المستقبل؟ نأمل ألا يتسبب ذلك بخسارات وخلل كبير في المجتمع اللبناني وآمل أن يعرف السنة الكرام اتخاذ موقعهم في المجتمع اللبناني، لأن لبنان لا يمكن له التخلي عن أي مكون من مكوناته والسنة مكون كبير ونأمل خيرا وأنا لم ألتق أحدا منهم لتكون الفكرة أوضح بالنسبة إلي”.
وردا على سؤال حول دور الفاتيكان في هذه المرحلة التي يمر بها لبنان، قال الراعي: “نحن نمر بصعوبات ولكن علينا ألا نسقط أمامها، علينا القول إن لبنان هو وطننا وعلينا أن نبنيه بالتجرد والتعاون وبتضافر القوى وبالثقة. هذا لا يحتاج إلى الخارج ليقول لنا عن هذه المسلمات. هل ننكر أن الثقة ببعضنا البعض غائبة؟ لماذا تغيب هذه الثقة عن بعضنا البعض؟ رئيس الجمهورية دعا إلى حوار، النصف رفضه. الرئيس ماكرون يدعوهم كلهم يحضرون. لماذا؟ لأن الثقة غائبة. علينا إيجاد الثقة بين كل مكونات المجتمع اللبناني. إذا غابت الثقة ببعضنا “ما بيمشي البلد”. الزوجان إذا غابت الثقة بينهما هل تستقيم العائلة؟ الثقة لا تشرى بل علينا خلقها. نبني هذه الثقة عندما أقول إن علي أن يكون لدي ثقة بالغير. الثقة لا تبنى بالإساءات في الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي، الثقة تكون من خلال التفاهم. نقطة الضعف لدى القيادات أنها لا تستطيع النظر بعيون بعضها البعض، في وطن أطلق عليه وطن الحوار والرسالة، الأفكار المسبقة ليست حقيقة منزلة. إذا غاب الحوار غابت الثقة. نحن مجتمع واحد ولدينا وطن واحد ومصير واحد ومسؤولية واحدة مشتركة من دون خلفيات نستطيع التفاهم. ولكن إذا كانت لدي حسابات وارتباطات أخرى فهذا موضوع آخر. هذه هي مشكلتنا في لبنان، ولهذا السبب الثقة غائبة. لماذا الثقة بالوطن غائبة؟”.
وردا على سؤال عن زيارة وزير خارجية الكويت إلى لبنان، قال الراعي: “ما ردده الوزير الكويتي حول تطبيق اتفاق الطائف أفرحني ونحن معه في هذه الدعوة. نحن يعنينا تطبيق قرارات الشرعية الدولية. طبعا تعنينا سيادة لبنان وتقوية الجيش اللبناني والوحدة اللبنانية وحماية الكيان اللبناني”.
وردا على سؤال حول سلاح “حزب الله”، قال: “عودوا إلى ما يقوله اتفاق الطائف. معاناتنا تكمن في عدم تطبيق اتفاق الطائف الذي طبق جزئيا. هذا ما يعنيني مما قاله الوزير الكويتي، لأن ما أشرت إليه أنا هو الألف باء لكل شيء وهو ما نطالب به كل يوم. نحن نطالب بمؤتمر دولي وليس بمؤتمر تأسيسي، لتطبيق الطائف أولا روحاً ونصاً وتطبيق قرارات الشرعية الدولية وإعلان حياد لبنان وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين”.
وعن موقف المجتمع الدولي من النازحين السوريين، قال: “موقف المجتمع الدولي حيال النازحين السوريين هو قرار سياسي وقع علينا وبالا”.
ورداً على سؤال حول دور الكنيسة المارونية في لبنان، قال: “هل من يختلف على دور الموارنة في لبنان؟ طبعا لا. لا يمكن للموارنة اليوم الإنكفاء عن الدور الذي بناه أجدادهم، الا وهو الولاء للبنان والعمل من أجل لبنان. لبنان ليس مارونياً وليس للموارنة الذين لعبوا دورا كبيراً من أجله. على الموارنة توحيد كلمتهم ورؤيتهم والتخلي عن خلافاتهم. أن تكون هناك أحزاب متنوعة هذا طبيعي، ولا يجوز الإختلاف على القضايا العامة وفق مصالح حزبية وشخصية. لا مصالحكم ليست أكبر من لبنان. إذا عاد الموارنة إلى هذه المرتكزات الأساسية بإمكانهم لعب دور الأجداد الذين بنوا لبنان. ولا أحد ينسى ما قاله شارل مالك عن مسؤولية الموارنة: “إذا خربت بكركي راح لبنان بس إذا خرب لبنان بكركي بتردوا”.
أضاف: “البطريرك صفير قال يوماً “مجد لبنان أعطي لشعب لبنان”. نعم أعطي لشعب لبنان المناضل صاحب الولاء للبنان. لذلك بكركي تمثل هذا الشعب”.
وردا على سؤال قال الراعي: “لا أريد تحميل الموارنة المسؤولية حول الأوضاع التي وصلنا إليها في لبنان. كلنا يعرف السبب الذي أوصل لبنان إلى ما هو عليه اليوم. يجب الا نحمل الموارنة الخراب الموجود في لبنان. أنا ادعو الموارنة للعب الدور لخير لبنان واللبنانيين”.
العلاقات المارونية – الشيعية
وعن العلاقات بين المرجعية المارونية والمرجعية الشيعية وهل هناك قطيعة بينها، قال الراعي: “البطريرك الحويك قال الإنتماء الى لبنان يكون عبر المواطنة لا عبر الدين. الإنتماء اليوم للبنان هو انتماء طائفي. ونحن نرفض في بكركي استعمال كلمة طائفي. ولم نتحدث يوما مارونياً أو مسيحياً، دائما نتحدث عن لبنان الدولة المتماسكة القوية. هذا هو مبدأنا. وانا لا اريد أن اعتبر ان هناك خلافا بين الموارنة والشيعة. كنا نعقد اجتماعات وكانوا يشاركون معنا ونحن بانتظار انتخاب رئيس المجلس الشيعي الأعلى خلفا للمرحوم الشيخ عبد الأمير قبلان. إذا تحدث أحد عن موضوع ما لا يعني ذلك ان هذا رأي الشيعة. نحن والرئيس بري تربطنا علاقة ممتازة واتصالاتنا دائمة. اما في ما خص حزب الله فهناك لجنة تمثلنا وتمثله ما زالت تجتمع. ولا يجوز القول أبدا ان هناك قطيعة بين بكركي والشيعة. وكان شيخ عقل الموحدين الدروز مهتما بعقد قمة روحية وهو يقوم بالإتصالات لذلك”.
يوسف
وفي ختام اللقاء، القى الزميل علي يوسف مداخلة مطولة حول الواقع الدولي والعربي واللبناني في الفترة الحالية والمتغيرات الكبيرة التي تحدث وضرورة النقاش حول موقع لبنان في هذه المتغيرات وصولا الى حلول حقيقية على مستوى السياسات الخارجية والداخلية وعلى المستوى الإقتصادي، وقد أثنى الراعي على المداخلة وطلب من يوسف كتابتها وتحويلها الى ورقة عمل للحوار الوطني.
المصدر : وطنية