خاص – nextlb
عاطف البعلبكي
…ويستحضر المربي أبو منير عدنان أبو ياسين الصور والمعلومات من الذاكرة كشريط مسجل ، ليشرح سبب ذهاب الوالد عبد الرزاق الى تركيا من البداية حوالي عام 1900 فيقول :”كان عمه علي رحمه الله وقد وصل الى مركز مرموق ووظيفة مهمة في قصر يلدز ضمن حاشية السلطان التركي عبد الحميد الثاني *
وبحسب ما كان متبعاً حينها أن من كان يخدم في قصر السلطان ، كان يحق له تعليم أولاده وحتى الأقارب منهم ، على حساب الدولة العثمانية ، فأرسل العم الى قريته يطلع أهله على الأمر ليختاروا أحد أفراد العائلة لتعليمه ، ووقع الخيار على الصبي عبد الرزاق ، وكان يبلغ من العمر حينها 8 سنوات (مولود في عام 1892 )، لأنه كان يتيماً وبحاجة الى رعاية في ظروف إجتماعية صعبة ، فأعدت له العائلة العدة مما تيسر من الزاد ، وكان الوداع …!
ويتابع أبو منير مسترسلاً : “… ويسافر الطفل اليتيم عبد الرزاق الى تركيا في مطلع عام 1900 ، ليتعلم في مدارسها برعاية عمه وتحت كنف السلطان العثماني ، وهناك يظهر نباهة وجدية في تحصيله العلمي ، مما يؤهله بعد سنوات لدخول الكلية الحربية التركية في اسطنبول قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى ليتخرج منها برتبة ضابط مهندس في الجيش العثماني في عام 1916 أي بعد عامين من إندلاع الحرب العالمية الأولى في صيف 1914 ، وكان عمره حينها 24 عاما .
من إسطنبول إلى بر الشام
ويضيف أبو منير: ” وخلال الحرب العالمية الأولى التي امتدت حتى عام 1918 راودت الضابط الشاب عبد الرزاق فكرة مغادرة تركيا وترك اسطنبول المدينة الجميلة ، وفكر بالأمر ملياً بالرغم مما يحمل من خطورة ، عندما أحس بالظلم والتعصب من جماعة الإتحاد والترقي ضد العرب مع رفاق له في نفس الموقع والرتبة ” .
ونفتح صفحات التاريخ لنعرف أن هذه الجماعة كانت قد وصلت إلى سدة الحكم في الدولة العثمانية بعد تحويل السلطنة إلى ملكية دستورية ، وتقليص سلطات السلطان عبد الحميد الثاني في انقلاب 27 نيسان أبريل من عام 1909 الذي أدى الى وضعه في الإقامة الجبرية حتى وفاته في عام 1918 كما سبق الكلام (موسوعة ويكيبيديا).
…ويتابع أبو منير سرد الوقائع كما ذكرها له والده سابقاً :” لم تكن خطة المغادرة سهلة البتة ، فقد طلب الضابط الشاب ” مأذونية ” للسفر، زاعما أنه مضطر لزيارة الأهل والأقارب في قريته حمّارة (صار إسمها المنارة منذ مطلع السبعينيات) لأسباب عائلية ملحة ، وسمحت له السلطة العثمانية بالسفر بعد إصراره ، على أن يعود الى اسطنبول بعد انتهاء “المأذونية” حسب الإتفاق .
الضابط عبد الرزاق في جيش الأمير فيصل
وعندما عاد الضابط الشاب عبد الرزاق الى بلاد الشام ، روادته فكرة الإنضمام الى الجيش العربي بقيادة الأمير فيصل إبن الشريف حسين، وكان هذا الجيش قد تأسس في سوريا على يد فيصل الذي بدأ بجمع أنصاره بعد إعلان الدولة العربية ، ورفع العلم العربي في دمشق . وقرر الضابط الشاب عدم العودة الى قطعته في اسطنبول نهائياً .
أما لماذا قرر الضابط عبد الرزاق الإنتساب الى الجيش العربي هو ومن كانوا مثله من العسكريين والضباط ، فقد كان هذا القرار نتيجة للإحساس بالظلم الذي وقع على رعايا السلطنة من العرب بعد سيطرة جماعة الإتحاد والترقي على الدولة العثمانية ، التي كانت طوال قرون من حكم الدول العربية تراعي حساسية الموقف بين العرب والأتراك ، بإعتبارها وريثة دولة الخلافة الإسلامية ، ومع ارتفاع صوت الدعوات القومية الطورانية تولدت نقمة لدى المواطنين العرب ضدهم .
وبعد أكبر عملية خداع تعرض لها الشريف حسين أمير مكة ووالد الأمير فيصل الذي حارب الدولة العثمانية ، وبعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ، سارعت كل من فرنسا وبريطانيا إلى تقاسم النفوذ و”وراثة “الدولة العثمانية تمهيدا لتنفيذ خطة جهنمية كان عمادها إعلان وعد بلفور المشؤوم، وفحواه إعطاء فلسطين وطناً قومياً لليهود ، ونُشر نص الوعد في الصحافة في 9 نوفمبر/تشرين الثانيّ من عام 1917.
وجاءت قرارات مؤتمر السلم المنعقد في “سان ريمو” الإيطالية في 25 نيسان أبريل 1920مخيبة لآمال العرب ، فقد قرر الحلفاء وضع سوريا تحت الإنتداب الفرنسي، والعراق وفلسطين تحت الإنتداب البريطاني، ثم السعي لتحقيق وعد بلفور لليهود في فلسطين . و تنفيذاً لهذا الوعد سيشرد الشعب الفلسطيني من أرضه نهائياً في عام 1948 ولا يزال مشرداً حتى تاريخ كتابة هذه السطور ، بعد 71 عاماً على نكبته وتهجيره من أرضه بالقوة .
ولم يكن قرار الإنتداب في سان ريمو إلا تطبيقًا لإتفاقية سايكس ـ بيكو المشهورة، وإصراراً من فرنسا على احتلال سوريا. فقامت المظاهرات والإحتجاجات في سوريا ، ورفض فيصل قرارات المؤتمر في البداية ثم عاد وقبل مرغماً بعد ذلك .
وتشكلت حكومة جديدة برئاسة هاشم الأتاسي ، ودخلها وزيران جديدان من أشد الناس مطالبة بالمقاومة ضد الإحتلال هما : الضابط يوسف العظمة، وعبد الرحمن الشهبندر واتخذت الوزارة إجراءات دفاعية لحماية الدولة الوليدة ، ووسعت نطاق التجنيد بين أبناء الشعب استعداداً للدفاع عن الأرض .
واتخذت فرنسا قراراً بإرسال قوة عسكرية إلى بلاد الشام تمهيداً لبسط حكمها على سوريا الداخلية مهما كلفها الأمر، وذلك بعد ضمانها عدم معارضة الحكومة البريطانية أعمالها في سوريا، وكانت أخبار الحشود العسكرية على حدود المنطقة الشرقية في زحلة وقرب حلب تتوالى، ثم لم يلبث أن وجه الجنرال غورو قائد الحملة الفرنسية الإنذار الشهير إلى الحكومة العربية بدمشق في شهر تموز يوليو من عام 1920 يطلب فيه قبول الإنتداب الفرنسي ، وتسريح الجيش السوري، والموافقة على احتلال القوات الفرنسية لمحطات سكك الحديد في رياق وحمص وحلب وحماة ، وكان إنذاراً مذلاً لشريك حارب معه الدولة العثمانية على أمل نيل الإستقلال عنها ، ولكن كان لحكام الدول الإستعمارية حسابات مختلفة تماماً .
وطلب الجنرال قبول هذه الشروط جملة أو رفضها جملة، وحدد مهلة لإنذاره بأربعة أيام ، فإذا قبل فيصل بهذه الشروط فعليه أن ينتهي من تنفيذها كلها قبل 31 تموز يوليو 1920 عند منتصف الليل، وإذا لم يقبل تتحمل حكومة دمشق مسؤولية ما سيقع عليها.
ويضيف أبو منير : ” في هذه الأثناء كان الضابط الشاب عبد الرزاق قد إنتسب الى الجيش العربي كضابط مهندس (حسب بطاقة إلإنتساب المرفقة مع النص ، والمؤرخة في 11 نيسان أبريل من عام 1920 أي قبل حوالي ثلاثة أشهر من معركة ميسلون الشهيرة) ، وعمل على تدريب العسكريين الذين سارعوا الى الإنضمام الى الجيش الجديد ، وتسارعت الأحداث في تلك المرحلة الفاصلة من تاريخ المنطقة والعالم ، لتقع المعركة الشهيرة في الرابع والعشرين من تموز يوليو من عام 1920 ، والتي قضت على حلم الأمير فيصل بإقامة دولة عربية مستقلة على أنقاض جزء من الدولة العثمانية .
في الحلقة الثالثة …المواجهة ! ومشاركة الضابط عبد الرزاق في معركة ميسلون التاريخية واستشهاد القائد يوسف العظمة ودخول الجنرال غورو الى دمشق .
========================================
*السلطان عبد الحميد من سلاطين بني عثمان الذين جمعوا بين الخلافة والسلطنة وقد حكم تركيا مدة ثلاثين عاماً ، تولى الحكم في عام 1876 وخُلع بإنقلابٍ في 27 نيسان أبريل عام 1909 ، ووُضع في الإقامة الجبريَّة حتّى وفاته في شباط فبراير من عام 1918 أي قبل نهاية الحرب العالمية الأولى في خريف نفس العام .
(معلومات تاريخية من موسوعة ويكيبيديا)
للإطلاع على الحلقة الأولى إضغط هنا