عندما قررت كتابة هذه الكلمات عن المرحوم الحاج أبو عدنان عبد الرزاق أبو ياسين ، أحد وجهاء قريتنا ، والضابط الذي تقاعد من قوى الأمن الداخلي برتبة نقيب منذ عام 1947 ، كان ذلك لعدة أسباب منها أهمية الشخص على صعيد قريتنا المنارة البقاعية الوادعة المستلقية بهدوء على سفح السلسلة الشرقية من جبال لبنان ، وكذلك على صعيد البقاع ، والسبب الجوهري الآخر ، بالإضافة الى أهمية الشخص بحد ذاته ، هو ما يمثله لي على الصعيد الشخصي ، فقد ولدت في منزله التاريخي وحملني صغيراً بين يديه عندما كنت طفلاً .
إستعنت في كتابتي لهذه الكلمات بلقاءات شخصية مع إبنَي الحاج عبد الرزاق أبو ياسين ، المربي أبو منير عدنان رحمه الله ، الإبن البكر ، والضابط المتقاعد في قوى الأمن الداخلي أبو وسيم رياض أبو ياسين ، وعززت المقابلات ببعض المراجع التاريخية لمقاربة الأحداث بدقة وبموضوعية ، ولمواكبة سيرة حياة هذا الضابط العصامي “عبد الرزاق أفندي” كما كان يلقبه أهل قريتنا منذ عشرينيات القرن الماضي حتى وفاته رحمه الله تعالى في عام 1982.
محاولة تأريخ…و بداية حزينة
أبدأ بالكتابة بحذر ، وهي محاولتي الأولى لتدوين وقائع وذكريات أحد أعلام قريتي التي تشكل جزءاً مهماً من تاريخها ، وقد أجريت المقابلات ،كما سبق وذكرت ، مع نجلي المرحوم أبو عدنان : المربي أبو منير عدنان مدير المدرسة الرسمية السابق في بلدتنا المنارة ، والذي توفي الى رحمة الله بعد فترة من تسجيل هذه الكلمات ، وشقيقه الأصغر أبو وسيم رياض الضابط المتقاعد في قوى الأمن الداخلي أيضاً ، فأمنا لي الصور التاريخية القيمة ، إحداها للضابط عبد الرزاق في تركيا عندما كان تلميذاً في المدرسة الحربية بإسطنبول في عام 1916 وأخذت طريقها للترميم الفني والنشر .
و عند إعداد مادة الكتابة أخيراً ، وبعد تهيب وتردد ، كان المربي “الأستاذ عدنان” الإبن البكر للضابط المتقاعد عبد الرزاق على فراش المرض ، وها أنذا أسجل اللقاء معه ليصبح التسجيل تاريخياً بعد أن يتوفاه الله الى رحمته ، فأتبع التسجيل بكلمة رثاء وجدانية قلت فيها :
“بهدوء ووقار يرحل كبارنا وبصمت الحكماء يغادرون
“الأستاذ عدنان” ، هكذا عرفناه صغاراً ، مديراً لمدرستنا الرسمية ، بشخصيته الرصينة ونبرته الهادئة والواثقة وبذلته الرمادية الأنيقة ونظاراته السوداء الكبيرة ، وطبع في الذاكرة والوجدان ، حتى كنت أخاله عندما يوزع علينا بطاقات علاماتنا المدرسية ، مهنئاً المتفوقين منا ومحفزا طلابه على الدرس والتحصيل العلمي ، أرفع منصباً من وزير التربية حينها ، وعندما كان يعطي بجدية تامة إشارة انطلاق النشيد الوطني من أمام مبنى إدارة المدرسة القريب من بيتنا ، كنا نصطف نحن التلاميذ إمتثالاً ، ونؤدي بفرح نشيد “كلنا للوطن” صباح كل إثنين من أول الأسبوع .
كم من الأجيال تربى على يديه ؟ كم من دكتور ومهندس وطبيب وجامعي ومدرس خرّج في أكثر من نصف قرن من العطاء من بلدتنا والجوار؟ .
لحكمة من رب العالمين عُدته مؤخراً بعد غياب طويل فكان لقائي الأخير به رحمه الله ، وكانت بوادر المرض بادية على محياه ، إلا أنه كان حاضر الذاكرة ، علمي السرد والتركيز رغم المرض ، فقد ورث عن والده الضابط السابق في قوى الأمن الداخلي الكثير من صفاته : الإنضباط والإستقامة ، ونظافة الكف وحب العلم والنزاهة في التعامل مع الآخرين .
بفقدانه خسرنا ركناً من أركان التربية والتعليم في منارتنا البقاعية ، وفي كل بقاعنا ، ندعو له بالرحمة والمغفرة ، ولأنجاله ولعائلته بالصبر على المصاب الجلل.
رحم الله الحاج أبو منير عدنان أبو ياسين ، وأسكنه فسيح الجنان . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
المنارة في : 21-11-2018
“أبوعدنان” كما عرفته صغيراً
….وعدت الى المنزل الذي شهد ولادتي بعد أن أصبحت فتىً ، عندما أعاد والدي رحمه الله – وكان مقاول بناء – ترميم هذا المنزل الأثري في نهاية سبعينيات القرن الماضي ، فإستيقظ في ذاكرتي بعض ما تبقى من صور الطفولة عندما غادرت هذا المنزل وأنا إبن بضع سنين ، الى بيتنا الحالي الذي نشأت فيه وكبرت
كان بيت الحاج أبو عدنان قد بقي على حاله تقريباً منذ أبصرت عيني النور في الطابق الأرضي منه في أواخر عام 1964 ، هذا البيت الذي بني من الحجر الصلب والضخم في عام 1931 ، كما هو مسجل فوق قوس المدخل الرئيسي له ، والمؤلف من طابقين حيث تم نقل الأحجار التي استخدمت في بنائه بالطنابر التي كانت تجرها الخيول من معلقة زحلة الى القرية ، وكانت الطريق صعبة المسالك حينها وغير معبدة ، ولم تكن قد عرفت الإسفلت طبعاً .
هذا البيت كما سلف ، بني من طابقين مع درج حجري و”درابزين” حديدي معربش ومنقوش ، وشرفة تتوسطها بركة ماء مسدسة الأضلاع تزين أرضيتها مثلثات متباينة الألوان ، كان “أبو عدنان” رحمه الله يغطسني فيها عندما تشتد الحرارة صيفاً ، كما روت لي والدتي أطال الله في عمرها ، ونوافذ زجاجية كبيرة عالية كانت الوحيدة حين بناء المنزل في قريتنا مطلع الثلاثينيات ، وقوبلت بإستغراب وإستهجان أهل القرية عند بنائها لأن الزجاج الكبير كان يكشف من في الداخل ، بينما كانت بيوت القرية حينها تبنى من التراب وجذوع الأشجار ، وتفتح في جدرانها نوافذ صغيرة ، بل يكاد يستغنى عنها بكوة علوية تقفل شتاءً بقطع القماش المستعمل وأكياس الخيش ، وتفتح صيفاً لإدخال الهواء البارد .
أبوعدنان الضابط كان في شيخوخته كما عرفته ، طويل القامة ، أنيقاً في كلامه وملبسه وهندامه ومشيته العسكرية ، وصولاً الى حذائه الفرنسي المؤلف من طبقتين كان يخلع الخارجية منها ليدخل الى غرفة الضيوف بحذاء أسود لماع . كان محباً للطبيعة وللأرض وللزراعة ، يدوام على زيارة أرضه بإنتظام تام كعسكري في الخدمة ،حاملاً في يده مقص تقليم الأشجار ، ومطرة ماء عسكرية مغلفة بقماش أخضر ، أدخل الى القرية زراعات لم يعرفها الأجداد ، فزرع الفستق الحلبي والصنوبر المثمر ، بالإضافة الى اللوز والتفاح في أرضه التي ورثها عن أهله ، هذه الأشجار دائمة الإخضرار التي كان يحب الجلوس تحت ظلها في أيام الصيف الحارة مسترجعاً ذكريات الشباب الحافل بالأحداث الجسام . وفي طريق العودة من أرضه كان يزور والدي رحمه الله في بيتنا معتمراً قبعته البيضاء الشهيرة المصنوعة من الفلين الأبيض ، التي كان اعتاد أن يعتمر شبيهة لها عندما كان في سلك الدرك اللبناني الذي بني تحت سيطرة الجيش الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي .
وعلى شرفة منزله خصص الضابط المتقاعد فترة ما بعد الظهر للقراءة وسماع الأخبار على كرسيه الهزاز ، وكان رحمه الله يقرأ ما يصل إليه من الصحف التي تصدر في بيروت ، ثم يحتفظ بتلك الصحف في غرفة خاصة ، ويتابع الأخبار من مذياع خشبي كبير لعله كان الوحيد في البلدة حينها وقد أحضره من بيروت ، يعمل على بطارية كبيرة وصار حديث الناس حينها .
كان مجلس ” أبو عدنان” يستضيف كبار أهل القرية الذين يجتمعون بعد الظهر في منزله لمتابعة الأخبار وسماع تعليقه عليها . وكان متابعاً دائماً لها ، مع من يحضر من الأصحاب الى ديوانه .
======================================
في الحلقة المقبلة ، جلسة وذكريات مع الراحل المربي عدنان أبو ياسين “أبو منير” يحكي فيها عن والده ورحلته الى اسطنبول ، ودخوله الى المدرسة الحربية ليتخرج منها ضابطاً في الجيش العثماني .
=======================================