التطور الإقتصادي بين نهضة الخليج وتعثر الآخرين

في وقتٍ تتسارع فيه مؤشرات النمو في دول مجلس التعاون الخليجي، لتسجل أرقاما قياسية في الناتج المحلي والأسواق المالية والأصول السيادية، تطرح هذه المعطيات سؤالا ملحًا: لماذا تنجح دول الخليج في تحقيق قفزات اقتصادية نوعية بينما تتراجع اقتصادات عربية أخرى تمتلك ثروات طبيعية وبشرية ضخمة؟ الجواب لا يكمن في وفرة الموارد وحدها، بل في طبيعة الإدارة الاقتصادية والرؤية الاستراتيجية التي وضعت الإنسان في قلب مشروع التنمية، مقابل غياب الاستقرار والتخطيط السليم في دول أخرى، حيث أُهدرت الطاقات وضاعت الفرص وسط نزاعات داخلية وفساد مستشري.
في احصاءات مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن حجم الناتج المحلي لدول الخليج بلغ مجتمعا 2.2 تريليون دولار أميركيا واحتل المرتبة التاسعة عالميا بحجم الناتج المحلي ، فيما استحوذت أسواق المال الخليجية على المرتبة السابعة عالميا من حيث القيمة السوقية ، وبلغت قيمة الأصول السيادية 4.4 تريليون دولار اي 34 بالمئة من حجم أكبر 100 صندوق سيادي في العالم. إن الإعلان عن هذه الأرقام الرسمية يطرح مباشرة سؤالا هاما : لماذا تحقق دول الخليج العربي هذه القفزات الاقتصادية الواسعة في حين يتراجع الوضع الاقتصادي في دول عربية أخرى تماثل، أو تفوق ، دول الخليج في الامكانيات والثروات الطبيعية ؟ ليس هناك شك في إن التطور الاقتصادي يعتمد على حقائق الأرقام ولا يقاس بحماوة الشعارات فقط ، وهو حصيلة منظومة متكاملة ولا يأتي بمحض الصدفة ، ويقوم على رؤية استراتيجية واضحة الهدف وبعيدة المدى وعلى إدارة اقتصادية بعقلية علمية تستشرف المستقبل مع استقرار سياسي وأمني وخلق بيئة خصبة للنمو بإمكانها تحويل المنطقة إلى وجهة آمنة وموثوقة لرؤوس الأموال في المحيطين الإقليمي والدولي . وينبغي إن يتواكب ذلك مع تشريعات مرنة ومناطق حرة وتسهيلات مدروسة وشراكة بين الدولة ورجال الأعمال قوامها الشفافية والحوكمة اللتان تشعران المستثمر بالعدالة في تطبيق القانون ونظافة البيئة الاقتصادية بعيدا عن أي نوع من انواع الفساد . إن اهم عامل في التقدم الاقتصادي الذي حققته دول الخليج هو ادراكها لاولوية الاستثمار في الإنسان بوصفه المستهدف الأساسي في مشروع التقدم ، وارتكزت عملية الاستثمار هذه على التعليم والصحة والثقافة والسكن واتاحة الفرص أمام الشباب والمرأة، لكن الأهم من كل ذلك هو ربط التنمية بالهوية الوطنية وتكوين قناعة راسخة لدى هذا الإنسان بأن التعليم والابداع والإنتاج تحت سقف الإخلاص للوطن عوامل تشكل الثروة الحقيقية التي لا تنضب. إن استطلاعا سريعا لأسباب النجاح الاقتصادي الخليجي وتراجع دول عربية أخرى تمتلك ثروات طبيعية ضخمة وموارد بشرية هائلة يظهر بوضوح أسباب هذا التراجع وابرزها : غياب الاستقرار السياسي وتمدد النزاعات الداخلية وتحويل الوطن إلى صندوق بريد لدول خارجية برسائل نارية أو إلى مركز لتصفية خلافات الآخرين مع تفشي الفساد والمحسوبيات والمحاصصة ووضع المصالح الخاصة والفئوية فوق المصلحة الوطنية العامة إضافة إلى غياب التخطيط وضياع الهدف الوطني وتشتت الرؤية الاستراتيجية والتقوقع داخل شرنقة البيروقراطية القاتلة لأي مبادرة استثمارية وإهمال بناء الإنسان الواعي المنحاز لمصلحة وطنه وكل هذا أدى بالطبيعة إلى هجرة العقول والشباب وفقدان روح المواطنة وتحويل الطاقات إلى عقبات بدل إن تكون أداة للنهضة . لكل ذلك يمكننا القول إن التجربة الخليجية لم تصنع نموها بالاتكال على الثروة النفطية فقط لكن في بناء الإنسان علميا وخلقيا ووطنيا وتحويله إلى شريك في التنمية لا مجرد مراقب أو متفرج أو قاعد على رصيف التحجر بعيدا عن مواكبة العصر . إن معادلة النهضة تقوم على : رؤية واضحة .. قيادة حكيمة ..انسان مبني على ثقافة الانتماء والادارة المنتجة والفاعلة .
نزيه عبدو حمد

لمشاركة الرابط: