راح على “الحرش، ورجع بلا “قرش”.. مثل شعبي بيروتي قديم، إنسحب على الأولاد، الذين كانوا ينفقون كل ما جمعوه من “العيديات” على لهوهم ومتعتهم وبسطهم و”التشبرق” في “حرش العيد”، الذي كانت تقام فيه ما قبل فترة الحرب، الإحتفالات الشعبية بالعيد، حيث تتحول تلك المساحة الحرجية المتبقية في مدينة بيروت، والمكسوة بشجر الصنوبر، إلى مدينة قائمة بذاتها داخل المدينة، وتختصر نمطها الإجتماعي، حيث تعج بالوافدين من كل أحياء ومناطق بيروت للمشاركة في هذا “الكرنفال” الشعبي، مع الإختلاف بأنواع الألعاب التي كانت مفعمة بالمشاعر الإنسانية، بعيداً عن الألعاب العصرية الحديثة.
كان “حرش العيد” طيلة أيام العيد، يضج بالوافدين الذين يصلونه “بالطنابر” و”الترامواي”، أو مشياً على الأقدام من المناطق القريبة، للإستمتاع بأجوائه، التي يختلط فيها الغناء وأهازيج الأطفال الخاصة بالمناسبة، مع مناداة الباعة ومشغلي الأراجيح والقلابات.
كان ينتشر في “حرش العيد” باعة الكبيس والشمندر والترمس و”الفريسكو” و”المعلل بيعلك” والتفاح المغطس بالسكر المذاب، و”السمسمية”، و”غزل البنات” و”الكرابيج” والسحبة” والفستق “العبيد” والكعك بالزعتر أو ال”قليطة” وعرانيس الذرة و”الملبس على قضامة”و “النعومة”.. الى جانب “البصارة البراجة” (التي تشوف البخت)، على وقع رقصات الدبكة، ولعبة السيف والترس، وركوب الحمير، وألاعيب الساحر، وأكشاك مسرحيات “التيرسو” (كشكش بك)، إلى جانب “المصوراتي” (الأرمني) ومرقص العنزة، فيختلط “الحابل بالنابل”، ويعج “الحرش” بالحركة التي لا تهدأ طيلة أيام العيد، التي تضفي أجواء الفرح والبهجة، والشعور بالعيد وفرحته.
ولمن فاته أن يعاصر ذلك الزمن الذي كان فيه للعيد رونقه وبهجته، التي تلاشت مع الزمن، نعرض بعض النشاطات التي كان يشهدها “حرش العيد”، عله يعيش بمخيلته، تلك الأجواء التي كانت رغم تواضعها، مصدر سعادة لا توصف للصغار والكبار على حد سواء:
*”القرداتي”
“القرداتي” كان يرقص السعدان، وهو يدق على الرق مخاطباً قرده: “قوم يا قليل المروة بوس إيد ستك العجوز، وفرجينا كيف بتعجن الصبية، وكيف بتعجن العجوز، وفرجينا كيف بيلبس معلمك الطربوش”…
*القلابات والأراجيح:
أكثر ما كان يستهوي الأطفال والأولاد هو ركوب “القلابات” (الشقليبات) و”المراجيح” و”الأرجيح”
(الجنازيق) فرحين مسرورين
وهم يرددون أهازيج:
“يا أولاد محارم..يو يو”، الخ.. و”دبوس حديد.. يو يو” الخ..
و”يا أولاد أبو شرشوبة” عائشة المخطوبة”…
يذكر المؤرخ عبد اللطيف الفاخوري: أن محمد عبد الله بيهم العيتاني إستصنع اسطوانات للفونوغراف وزعها مجاناً وضع فيها أنشودة على وزن أنشودة يويو وأرسل منها كميات الى دمشق وحلب وغيرها بهدف تشجيع العلم وقال فيها :
“يا ناس غنايم يويو ، شدوا العزايم يويو ، للعلم العالي يويو ، تجنوا اللالي يويو” الخ
*صندوق الفرجة:
ولا بد للأولاد المحتفلين بالعيد في “حرشه” من مشاهدة “صندوق الفرجة” (تلفزيون ذلك الزمان)، الذي كان صاحبه يجذب الأولاد منشداً أهزوجته المعرفة:
شوف تفرج يا سلام،
شوف أحوالك بالتمام،
شوف قدامك عجايب،
شوف قدامك غرايب،
شو الأميرة بنت السلطان،
شو عنتر أبو الفوارس…
وصندوق الفرجة هو صندوق خشبي مستطيل مطلي بألوان “فاقعة”، له ثلاثة ثقوب مستديرة، مغطاة بقطع من الزجاج، لتمكين الأولاد من مشاهدة المناظر في داخله، التي يحركها صاحب الصندوب بواسطة دولاب مغلف بالصور المتتالية، التي كانت تبهرهم وتذهلهم بما يشاهدونه، وكأنها كانت عجيبة في حينه !
هكذا كان الأطفال زمان يقضون العيد في رحاب تلك الفسحة البيروتية الرحبة تحت ظلال أشجار الصنوبر المعمرة، يقضون فيه ثلاثة أيام متتالية، على لعب ولهو، لا تخلو من بعض “الشقاوة” المحببة، الأمر الذي كان يدفع أهاليهم بعد إنقضاء العيد، أن يرددوا: “خلص العيد وفرحاتو، ورجع الأستاذ وقتلاتو”…
في زمن الألعاب الإلكترونية والأجهزة الزكية، بات الجميع يسأل: ما الذي بقي من فرحة العيد في هذا العصر الذي تباعدت فيه القلوب؟ بل ما هو الجديد الذي يجعل هذا اليوم متغيراً عن باقي أيام السنة التي باتت رتيبة بروتينها الممل؟
فقد باتت البسمة مزيفة والفرحة مصطنعة والمجاملة هي سيدة الموقف، إجتماعاتنا صارت كأنها شيئاً مفروضاً ينبع من حس أداء الواجب فقط، فصارت تجتمع الأجسام ولكن القلوب متفرقة ومتباعدة…
المصدر : لبنان الكبير – زياد سامي عيتاني