ثلوج الخير ودفء الذكريات !

خاص – nextlb
هي ذكرى طيبة من أيام الخير ومن ثلج كوانين ، يوم كانت “هبة” الثلج تبعث الراحة في النفس ، فالأرض بحاجة ” لثلجات” ثقيلة تكون خميرة الأرض كما قال الأجداد .
لم يكن الوقت حينها لإلتقاط الصور وتوزيعها على مواقع التواصل الإجتماعي كما هي الحال اليوم ، وكان على أهل بلدتنا المنارة البقاعية أن يفرحوا ب ” عدان” الثلج ، فأرضهم البعلية في حاجة ماسة للمطر والسقيا ليغذي الينابيع والعيون التي تنتظر فصل الشتاء ول”عيانات” الثلج لتختزن حصتها من الرزق لدوام دورة الحياة والإنبات ، وتبعث الأخضر ندياً طيباً في جنبات القرية وكرومها عند قدوم فصل الربيع .
وما أن كانت تتدنى درجات الحرارة وتلفح الريح الباردة الوجوه السمر، ويغمر الضباب الأفق الغربي حتى يجهز أهل الضيعة النفس لإستقبال الزائر الأبيض ولسان حالهم يقول ” إذا غطغطت من عشية شوفلك شي قُرنة دْفية ” .
كان الإستعداد لموسم الثلج يسبق البرد القارس والريح الشمالية التي “تقص المسمار ” فتمتلىء أرضيات البيوت الترابية بالحطب الذي يجهز لبرد كوانين وقساوة ملكها كانون الثاني ” فحل الشتاء” ، وعندما كان يحل ، تعمر مواقد الحطب بالجمر الذي يفرش في أرض الموقدة بشكل دائري ، وتعقد السهرات غالباً على ضوء قنديل الكاز قبل وصول الكهرباء الى القرية في نهاية الستينيات ، ويدور إبريق الشاي المعطر بزهر البابونج والزعرور على الساهرين ، وتقدم صحون الزبيب والتين المجفف واللوز ، وتبدأ حكايا أهل القرية التي تغوص في أعماق التاريخ ، وتصل الى قصة عنترة بن شداد وقد تتعداها الى تغريبة بني هلال .

صباح أبيض
بهدوء يشبه الهمس وككرات من قطن ، كان الثلج يتساقط فيتراكم ويغمرالحقول والأرض ببياض ناصع يخفي معالم الضيعة ، ويصوغ من أشجارها أشكالاً تحاكي قصص الأجداد والأساطير وحكايا التاريخ ، فيلغي حدود الطرق الضيقة المتعرجة بين البيوت الترابية في القرية ، وقد يغلق العديد من أبواب الديار فيعزل أصحاب البيوت عن بعضهم البعض الى حين.
وكان إذا أصبح الصباح شد أهل الضيعة همتهم لفتح الطريق ، ولكن الهم الأكبر كان تراكم الثلج على سطوح بيوتهم المبنية بمعظمها من التراب المرصوص وأغصان الأشجار التي لم تكن لتحتمل الوزن الإضافي الكبير للثلج الذي قد تزيد سماكته عن المتر في سنوات قاسية لا زالت تذكر بالإسم وبالتاريخ مقرونة بأحداث جسام ووفيات ، كان الثلج يصل فيها الى “السْفار” (حافة السطح التي كانت مصنوعة من الحجر)، وكان على أصحاب البيوت المسارعة الى إزالته قبل أن يرتفع ويصير سميكاً فيثقل كاهلها، ثم يذوب ويتسرب الى داخل السقوف الترابية فيؤذيها ، ويصل الى داخل البيوت فيتسبب في إتلافها .
وقد تكون “العونة” حينها ضرورية في حال ثقل الحمل وكبر مساحة السطح وعدم قدرة صاحبه على جرف الثلج منفرداً .
وكان على أهل الضيعة حينها أن يجرفوا الثلج بالأدوات المتاحة عن السطوح الترابية بإستخدام أدوات مبتكرة عمادها ” الزُحف” وهو آلة شبيهة بالرفش ولكن مع صفيحة سفلية مثلثة أشبه بالجراف لإزالة الثلج عن السطح ، وهذه العملية الشاقة ليست نهاية القصة ، فلا بد بعدها من حدل السطح بالمحدلة بعد الجرف مع رش كمية من التبن تشكل عازلاً يمنع تسرب الماء الى الطبقة الهشة التي يتشكل منها السقف الترابي ، وتحافظ كذلك على الأخشاب التي تحمل السقف ، وعماده جسر البيت الغليظ الذي يتقاطع مع أضلاع أرفع قطراً تحمل السقف وتمنعه من السقوط .

محدلة السطح .. دولاب السومريين !
وبالمناسبة – وعلى سيرة المحدلة – (المدحلة لغوياً ) فهي كانت تنحت من الحجر الصم شديد الصلابة وتحكم استدارتها ، وقد يكون حجمها كبيراً أو متوسطاً ، وكان حجمها يعبر أحياناً عن قوة صاحب البيت وفتوته ، وفي تقليد متوارث عن الأجداد قد يطرحها في يوم من الأيام هو أو أحد أفراد عائلته أرضاً في حال قدوم عريس لإبنته ليختبر قوته في رفعها ، ولكن مهمتها الأصلية التي صنعت من أجلها كانت حدل السقف الترابي لعقود طويلة من الزمن ، وحماية الحيطان الطينية السميكة من الماء الذي قد يتسرب اليها فيفسدها ، هذه الجدران التي صنعت كذلك بقوالب من التراب والتبن وتم تجفيفها قبل استخدامها في بناء البيت .
وكان على من يتولى الحدل أن يدفع المحدلة بواسطة “ماعوس” كان يصنع قديماً من الخشب ليشكل المقود والمحور للمحدلة ، وفي فترة الستينيات صار يصنع من الحديد الغليظ الذي زاد من عملانية هذه الأداة البدائية التي تذكرنا بدولاب السومريين الذين اخترعوا هذه التقنية منذ فجر البشرية .
أما أصحاب الحظ من أهل بلدتنا ، فكانت جدران بيوتهم مبنية من الحجر المقصوب ، وهم غالباً من وجهاء البلدة أو من معلمي الحجر والعقود والقناطر ، وقد تسرب الإسمنت الى سطوح منازلهم كطبقة إضافية في الخمسينيات فأراحهم من عناء الحدل ومشقة جر المحدلة ذهاباً وإياباً لساعات عند تساقط الثلج ، بينما استمر حدل السطوح الترابية بشكل فعال حتى نهاية السبعينيات .
كان الثلج في قريتنا نعمة منتظرة للأرض ، ولكنه لم يكن يمر هنياً على أهل الضيعة ، وقد يضطرون لجرفه وربما لأكثر من مرة في اليوم مع المزيد من المشقة ، والى طلب “العونة” من الجيران في حال كان السطح كبيراً ، وكانت المهمة تنفذ بدقة متناهية ، فلا مجال للتهاون ولا للكسل لأن العواقب قد تكون وخيمة .
ذكريات غالية تثب من عمق الذاكرة لتوقض بعض الحنين الى ماض كان طيباً فيه الكثير من الوداعة وراحة البال رغم المشقة والتعب .

عاطف البعلبكي
[email protected]

لمشاركة الرابط: