خاص – عاطف البعلبكي
إنها السادسة صباحاً في بيت جدي أبو مصطفى في مطلع السبعينيات ، وأنا ابن عشر من السنين الخوالي ، أحل ضيفه من الليلة السابقة لمرافقته الى كرم الوادي ، كرم الملاّحة الذي كان يعرف بإسم جدي في قريتنا فهو “ملاّحة الحج صالح” ولا زال اسمه كذلك بعد رحيله – رحمه الله – منذ أكثر من عقدين من الزمن .
لقد حان وقت الذهاب الى الكرم لقطف العنب والتين ، وإجراء الصيانة لجدرانه بعد أن هدمها سيل جارف من أيام كوانين .
أمشي سعيداً خلف جدي وندخل الى القبو الأثري أسفل داره التي بناها من عقود حجرية وقناطر متقاطعة ، وهو معلم الحجر المحترف منذ أيام شبابه ، يضع الجلال على ظهر الحمارة ويردف الخرج فوقه مع سلة قش ومطرة ماء باردة ، ثم يركزني أمامه على ظهر الحمارة … فننطلق نحو الوادي .
في الطريق يلقي جدي السلام بجدية وبقليل من الكلام على الأصحاب ، وسرعان ما تنتهي بيوت الضيعة من جهة الوادي ليبدأ جدي بتعريفي بالأمكنة ، فأنا كبير أحفاده الذكور ، ويجب أن أكون ملماً مثله بالأماكن و”الإحداثيات” ليقول :”هذه حاكورة بيت صلاح الدين وبجانبها صيرة (زريبة ماعز) بيت عمي أبو عبّاس ” (يرفع جدي صوته كخطيب) .
كان ينتصب وسط الزريبة عرزال خشبي يرتفع عدة أمتار وسلم طويل للوصول اليه ، بُني على أعمدة خشبية غليظة ، ويتناهى الى مسامعنا من العرزال صوت شجي مصدره منجارة أحد الأقارب ، قبل أن ينطلق بقطيعه نحو المرعى في أعلى الجبل حيث تعقد غابة السنديان أغصانها في ” العقدة” لتُشكل غابة تاريخية هناك ، ونكمل المسير على طريق مرصوفة بالحجر فيضيف جدي بأن أخاه “يوسف” (جدي المرحوم أبو أديب) رصف هذه الطريق بالحجارة التي نقلها من مقلعه في عمق الوادي ، ونصل الى مطل عال يشرف على طريق الوادي ، وها نحن نمر بالقرب من حجر ضخم بشكل حيوان راقد بحجم غرفة كبيرة ، فيقول لي “هذا هو حجر الزُرّادة “.
وأسال جدي : وماذا تعني الزُرّادة ؟ ليجيب بأن الأجداد كانوا يربطون دوابهم بنتوء صخري فيه يطلق عليه هذا الإسم ، الا أن بعض أهل القرية كانوا يطلقون عليه خطأ اسم “حجر الحبلى ” لأن أحدى نساء البلدة كانت قد ولدت طفلها بالقرب منه منذ سنين عديدة ، ويصحح مضيفاً : ” حجر الحبلى هناك (يشير الى جهة الشمال ) في مسقط رأس أجداد أجدادك في بعلبك” .
ومن أن نتجاوز الطريق الذي يسميه لي ب “بلايط الوادي” حتى نصل الى “ملاحة جدي” ، ولا أعرف حتى حينه لمَ أطلق عليها هذا الإسم ولا علاقة لها بالملح لا من قريب ولا من بعيد ، فهي كرم ودوالي عنب فيه العَصّيري والدُخاني الذهبي اللون ، مع صفين من أشجار التين واللوز تحيط بالكرم من جانبيه .
يحمل جدي في الخُرج بقايا طعام من يوم سابق ، يُكلفني أن أضعه فوق صخرة محاذية ، فتتسلل أنثى ثعلب برشاقة وحذر لتأخذ كيس الطعام بطرف أنيابها وتركض صعوداً الى أعلى الجبل فتطعمه لصغارها .
لا بد من صيانة الحائط الحجري الذي تهدم بفعل الثلوج والسيل ، والعدة جاهزة في الكوة المثلثة الأضلاع المحفورة في الجدار الحجري ، ففيها المعول والرفش والمجرفة ، ومطرقة ثقيلة لم أكن أستطيع حملها الا بعد جهد … !
يصلح جدي الحائط المنهار ، ويعيد الأحجار المتناثرة الى موقعها … يشرب الماء من المطرة الحمراء ، ويمسح عرقه بكوفيته السوداء الشهيرة ، ثم ننصرف الى الكرم فينتقي من الدوالي ما نضج من عناقيدها الذهبية ، ويجمعه في السلة بعد أن تكون شمس الصيف الحارقة قد نشرت الحرارة على أطراف الوادي ، ويقطف أكواز التين الناضجة التي اكتنزت قطراً وحلاوة ، ويضعا في الصفيحة المعدنية ذات المقبض الحديدي .
ونعود أدراجنا الى القرية محملين بسلة العنب وصفيحة التين الشهي ، وينالنا منها نصيب كبير عند العودة الى البيت .!
أما حجر الزُرادة ، عنوان الذكرى ، فلم يبق في مكانه ، لأنه سقط صريعاً أمام آلات الحفر التي عملت على توسعة الطريق وتعبيده بالإسفلت ، وقضت على جزء من تاريخنا وذكرياتنا للأسف ، ويبدو أنه قد بقي جزء صغير منه على حافة الطريق حتى الآن يحرس ما تبقى من الذكريات .