صباح كل يوم، يرفع جميل سماعة هاتف المؤسسة التي يملكها لبيع الزجاجيات والأدوات المنزلية ويتّصل بمحل الصيرفة في آخر الحي ليعرف سعر صرف الدولار الأميركي. جميل الذي يستورد البضائع من الصين بالدولار الأميركي ويبيعها لزبائنه بالليرة اللبنانية، يرفض المصرف الذي يتعامل معه أن يمدّه بالعملة الصعبة منذ نحو 3 شهور. ولهذا فهو مضطر إلى أن يلاحق السعر الأدنى يومياً لجمع الدولارات إلى حين استحقاق موعد التحويل أو الدفع، طالما أن الصرافين والتجار ما عادوا يعتمدون سعر الصرف الرسمي الفولكلوري الذي يحدده مصرف لبنان بنحو 1508 ليرات لبنانية.
لكن هل فكّرنا يوماً من يحدّد سعر صرف الدولار في السوق الموازية (السوق السوداء) الذي يتتبّعه جميل صباح كل يوم؟ ولماذا ننام على سعرِ صرفٍ ونصحو على سعرٍ آخر؟ وما هي الآلية التي تحكم عملية تحديد سعر الصرف ومن هي الجهات التي تقف خلفها؟ الإجابة السريعة والكلاسيكية التي قد نتلقاها عن سؤال كهذا هي: “العرض والطلب”. لكنّ هذا الجواب بدوره يستتبع سؤالاً آخراً: من يحدّد العرض والطلب وكيف؟
قد يكون حجم التجارة المتواضعة التي يديرها جميل قادر على أن يغطيه محل صيرفة أو أكثر على مستوى المنطقة حيث يقيم، لكن ماذا يفعل التجّار الكبار أصحاب الشركات المنتشرة في المناطق اللبنانية، وكيف يؤمنون هذا الكم من الدولارات لتمويل حركة استيرادهم الضخمة؟
أحد الصرّافين في بيروت يجيب عن بعض التفاصيل، وهي مازالت مبهمة وملتبسة لدى أغلب الناس. الصراف كشف أنه مِثل النّاس العاديّين يستقصي عبر الهاتف سعر الصرف كل صباح، يتصل بزملائه الصرافين فتأتي “التعليمة” صباح كلّ يوم (غالباً عند العاشرة والنصف) من مصدر مختلف. مرّات يكون مصدرها بيروت، مّرات طرابلس أو البقاع وغالباً الضاحية الجنوبية وتلك الشمالية، حيث مراكز الشركات التجارية والصناعية الكبيرة.
يقول الصرّاف إنّ حجم مؤسسات الصيرفة وقدرتها السوقية (حجم السيولة) وعلاقاتها العامة هي عوامل تحدّد مدى قدرتها على قيادة السوق. وبالتالي فإنّ هذه العوامل تساعدها في أن تكون مصدراً لتحديد السعر اليومي. فالصرّافون الكبار، (عددهم محدود نسبياً وعرفنا منهم على سبيل المثال شركة وهبي في منطقة بيروت وشركتي شمس واللقيس في منطقة البقاع)، يتواصلون مع هذه الشركات التي تسعى، بفعل الأزمة، إلى تأمين الدولارات من السوق (بعض المرات من المصارف من خلال التواطؤ مع المدراء بأسعار مرتفعة لزوم “النصبة”). تماما مثل صديقنا جميل، لكن على مستوى أكبر بكثير. حجم الكتلة النقدية المطلوبة من التاجر هي التي تفرض سعرها، فكلما كان الرقم كبيراً كانت إغراءاته أكبر، لأن الإغراءات تسرّع في عملية “ضبّ” السيولة من أيادي الصرّافين سريعاً.
روى الصرّاف أنّ هؤلاء التجار هم غالباً من عمالقة مستوردي المشتقات النفطية، أو كارتيلات الأدوية والمواد الغذائية أو الإلكترونيات. يقول أحدهم لصرّاف كبير ذي صيت ذائع على سبيل المثال: “أنا بحاجة الى 5 ملايين دولار خلال أسبوع، وأدفع 2400 ليرة لبنانية للدولار الواحد”. يُطلق هذا الصراف “التعليمة” الصباحية بسعر 2350 ليكون هامش الـ50 ليرة لبنانية ربحه الصافي. تنتشر هذه “التعليمة” بين الصرّافين الذين هم أدنى منه قدرة مالية، كالنار في الهشيم من دون أن يعرفوا بالضرورة من هو مطلقها ولا حتى شخصية الزبون. وكلما انتقلت من صراف الى آخر أدنى منه قدرة مالية، بات السعر الصرف أقلّ لأن كلّ واحد منهم يحتفظ بهامش ربحي بسيط لنفسه. تُثبَّت الأسعار بين الصرافين على الهاتف ويجري التسليم والتسلّم في نهاية النهار إن كان الأمر مستعجلاً، أو في موعد لاحق يحددونه في ما بينهم.
يؤكد الصراف أنّ هذه اللعبة محفوفة بالمخاطر وتكبّد الصرافين في مرات كثيرة الخسائر، كما أنّها في المقابل قد تدرّ عليهم أموالاً وفيرة. وأضاف: “في بعض الأحيان يحصل الزبون الخفي على رأس المال المرجو فيتوقف الطلب خلال ساعات قليلة، فيمسي كل من اشترى بسعر الصرف المرتفع، مضطراً لأن يحتفظ بما لديه من دولارات إلى حين بلوغ السعر السقف نفسه من جديد، وذلك حتى يحدّ الصرّاف من هامش خسارته وإلا أكل هذا الفرق رأسماله!
عماد شدياق*
كاتب وصحافي لبناني
شو بخبرك عن بيت من لبنان !
يقول الفنان وديع الصافي في رائعة من أجمل أغانيه ” بيتي ما برضى يسيب بيتي أنا سلاحو .. ما بتركو للديب ولا بعير مفتاحو” من المؤسف القول أن بيوت العديد من اللبنانيين اليوم “تركت للديب” وضاعت مفاتيحها … وما أدراك ماذا فعل بها ” الديب” ؟ يعرف البيت اللبناني الأصيل ليس من حجارته المقصوبة فحسب
Read More