دور الأوقاف في رقي الحضارة الإسلامية .. بقلم الشيخ د . جهاد حمد

كانت مؤسسة الوقف في ظل الحضارة الإسلامية تجسيدا حياً، وتطبيقاً عملياً لقيم السماحة والعطاء والتضامن الإجتماعي ورعاية حقوق الضعفاء والإنفاق في أوجه البر. وكانت تمثل مورداً ضخماً يفيض بالخير على كثير من المؤسسات والمرافق الاجتماعية. وبفضل تلك الموارد قامت المساجد والمرافق الإجتماعية. والمعمارية التابعة لها، وشيدت المدارس والمكتبات ودور العلم وأقيمت بها المرافق اللازمة لراحة العلماء وطلاب العلم، وأنشئت المستشفيات والمصحات والصيدليات وألحقت بها المدارس أو الأجنحة الخاصة لتدريس طلاب علوم الطب، وأقيمت الرباطات على الثغورالإسلامية ، ورصد لها من الموارد ما يلزم المجاهدين وألحقت بها أجنحة لتعليم فنون الحرب وصنع الأسلحة وأجنحة أخرى لتلقين العلوم الإسلامية.
والمتصفح لتاريخ هذه المؤسسة العظيمة وآثارها وأبعادها الإجتماعية والحضارية الجليلة يقف وقفة إجلال وإعجاب أمام فضلها الكبير في تشييد صرح الحضارة الإسلامية.
فضل الوقف في إقامة شعائر الإسلام:
أول ما يطالع الناظر في صفحات تاريخ الوقف وأبعاده وفضله في الحضارة الإسلامية هو بناء المساجد وعمارتها وإعدادها لأداء وظائفها الدينية والإجتماعية، ولم تكن المساجد في ظل الحضارة الإسلامية بيوتا لإقامة الصلاة فحسب، بل كانت إلى ذلك منارات لنشر الإسلام ومراكز للتربية والتعليم، ومعينا للفضائل الخلقية، ومعرضا للفنون المعمارية.
الوقف والجهاد في سبيل الله: يعد الجهاد من أفضل الأعمال والقربات التي حث عليها الإسلام. ومن الآثار الصحيحة التي تؤكد ربط الوقف بهذه الفريضة منذ بداية الإسلام، ما روى أن خالداً بن الوليد حبس دروعه وأكراعه في سبيل الله ، ومن جهات الوقف التي ترتبط بالجهاد فك أسرى المسلمين من أيدي الأعداء، وسجل تاريخ الإسلام أوقافاً كانت مخصصة لهذا الغرض. ولعل أشهرها وقف صلاح الدين الأيوبي الذي كان ببلده بلبيس .
وبفضل ما تدره الأوقاف من أموال سخية على الرباطات والمجاهدين قاومت الأمة الإسلامية أعداءها على مر العصور، وصدت جيوش الإستعمار في العصر الحديث، ولم ينجح المستعمر في اختراق حدودها إلا بعد أن ضعفت مؤسسة الوقف وتقلص دورها في حياة المسلمين.
فضل الأوقاف في ازدهار الحركة العلمية:
كان للوقف فضل كبير في إنشاء المدارس والمراكز العلمية والمكتبات في سائر بلاد الإسلام وفي بقائها واستمرارها على مر العصور، فلا تكاد تجد مدرسة ولا مكتبة إلا ولها أوقاف خاصة يصرف ريعها في الإنفاق عليها.
الوقف على المدارس:
بفضل الوقف شيدت المدارس والمعاهد في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ويذكر التاريخ بكثير من الإكبار والإعجاب طائفة من أفراد المسلمين، كانت لهم اليد الطولى في إنشاء مدارس علمية كبرى في سائر الأمصار.
ويذكر التاريخ فضل صلاح الدين الأيوبي في إنشاء المدارس العلمية في جميع المدن التي كانت تحت سلطانه في مصر ودمشق والموصل وبيت المقدس، وفضل نور الشهيد الذي أنشأ في سوريا وحدها أربعة عشر معهداً، منها ستة في دمشق وحدها ، وبمطالعة تاريخ المدارس العلمية في العالم الإسلامي يتأكد فضل الأوقاف في ازدهار الحياة العلمية، ويظهر أنه ما كان للمدرسة أن تقوم في البلاد الإسلامية لولا الأوقاف، يشهد لهذه الحقيقة أن عدداً من المدارس التي لم تكن لها أوقاف كافية لرعايتها والإنفاق عليها لم تستطع أن تستمر في مزاولة نشاطها، ولم تلبث أن تعطلت وتهدمت.
الوقف على المكتبات:
من أهم المظاهر التي يتجلى فيها البعد العلمي للوقف إنشاء المكتبات ورعايتها وتزويدها بالكتب.
والوقف على المكتبات وفتح أبوابها في وجه طلاب العلم يعكس حب المسلمين للعلم وأهله وحرصهم على نشره بين الناس.
لذلك نجد مثلا علي بن يحيى ابن المنجم ينشئ مكتبة ويجعلها وقفا في سبيل الله، ويخصص لها وقفا ينفق منه على من يفد عليها. ونصت في وثيقة وقفها على أن من يفد إليها يحق له الإقامة وأخذ نفقته من الوقف المرصود لها.
ومن المكتبات الوقفية المشهورة في تاريخ المسلمين المكتبة التي بناها ووقفها بنو عمار في طرابلس الشام، وكانت آية في السعة والضخامة، يقال إنها اشتملت على مليون كتاب.
فضل الأوقاف في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية:
أجمع الباحثون والمفكرون المحدثون، الذين ناقشوا في أبحاثهم مؤسسة الوقف وأبعادها الحضارية على الإشادة بفضل الوقف في توفير الرعاية الصحية والخدمات الإجتماعية لأبناء المجتمع الإسلامي قبل العصر الحديث.
كما تحدثت عن وفرة الأوقاف التي أنشئت خصيصا لبناء المستشفيات والإنفاق عليها وإمدادها بالأدوية ووسائل العلاج اللازمة.
وكان للأوقاف أثر حميد على النهوض بعلوم الطب، لأن دور المستشفيات التي ينفق عليها من الأوقاف لم يكن يقتصر على تقديم العلاج، بل يتعدى ذلك إلى تدريس الطب. وكانت تخصص قاعات داخل المستشفيات الكبيرة للدروس والمحاضرات.
الرعاية الاجتماعية.
كان الوقف هو حجر الأساس الذي قامت عليه كل المؤسسات الخيرية في تاريخ حضارتنا. وكان رسول الله أول من ضرب المثل الأعلى لأمته في ذلك، فوقف سبع بساتين كان أوصى بها يهودي من أهل المدينة إلى رسول الله وأن يتصرف فيها كيف يشاء، فوقفها بعد موت اليهودي على الفقراء والمساكين وذوي الحاجات .
وبرز هذا المقصد في السنة النبوية كذلك، وظهر جلياً في الأحاديث التي تعد أصولاً لتشريع الوقف، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : “إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لإبن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته.
وهناك أوقاف مخصصة لرعاية المقعدين والعميان والشيوخ والعجزة، وأوقاف لتزويج الشباب والفتيات. وفي بعض المدن دور خاصة حبست على الفقراء لإقامة أعراسهم. وهناك أوقاف لإمداد الأمهات المرضعات بالحليب والسكر..
وهناك أوقاف لإنشاء دور للضيافة والإستراحة (الخانات)، وأوقاف لقضاء الديون عن المعسرين، وأوقاف للقرض الحسن، وأوقاف لتوفير البذور الزراعية ولشق الأنهار وحفر الآبار وأسبلة المياه الصالحة للشرب (السقايات)..
أسأل الله تعالى أن تعود تلك الحقبة الزاهرة وترجع للمسلمين حضارتهم وتراثهم الإنساني العظيم ويتمثل ذلك بإعادة إحياء دور الأوقاف وتنميتها والحفاظ عليها ونشر ثقافتها بين خاصة المسلمين وعامتهم.

* الشيخ الدكتور جهاد حمد رئيس دائرة أوقاف حاصبيا ومرجعيون.

لمشاركة الرابط: