أهدت اميلي نصراللّـه محتويات مكتبتها الحميمة الى المكتبة الشرقيّة في جامعة القديس يوسف. وكان تكريم وكلمات في 29 ايلول 2015 وهنا استعادة لنص كتبه هنري عويس عربون ذكرها المؤبّد.
• في العُشر الأخير، وتحديداً في اليوم ما قبل الأخير، يمّمت “طيور أيلول” شطر المكتبة الشرقيّة، وقد حملت في مناقيرها محفوظات حميمة، ذلك انّ الطيور تطمئنّ الى الدفء، وتستكين في الطيب.
والطيور التي هجرت “شجرة الدفلى” “أقلعت عكس الزمان” لأنّها رفضت أن تقع “رهينة”، وان تبتعد عن “الينبوع”! وتطول لائحة المؤلّفات، ولست بالطبع في صدد تعدادها، أو تبويبها…
• ولربّما كانت لكلمات المناسبات أطر وقوالب، لا تصلح اطلاقاً إن هي كرّرت أو علكت، فالسيّدة، التي اتّصلت بي منذ اسبوع وسألتني هل “أستأهل هذا التكريم ولِمَ؟” “فأنا فلاّحة وتكفيني حالي”. لا تنتظر أن أكرّر لها ما يكتب في مثل هذه الاحوال. وكنت في ما سبق اتّصالها أزور طليطلة، عند “ماري لوث كومندادور”، مترجمة كتابها “يوميّات هرّ”، ودار الحديث مع زوجها لويس ميغيل كانيادا، وهو من عداد الاساتذة الضيوف في جامعتنا، فراح يصف مؤلّفة الكتاب محاولاً أن يجد لها لقباً أو كنية فقال هي “الدونيا اميلي”، ولكنّه بعد حين اقترح، “الليدي اميلي”، وأكّد أنّه لا يرغب في التسميات العاديّة : الكاتبة، أو المؤلّفة، أو الروائيّة. وبعد أخذ وردّ تبنّى تسمية عزيزة على قلوبنا جميعاً وهي “الستّ اميلي” أي، وللمفارقة، وفي تفاهة التراتبيّة والطبقيّة، هي عكس الفلاّحة! ولكن من قال؟ ومن شرّع انّ بنات الحقول والجنائن والبساتين، بنات الارض لا يفزْنَ بلقب الستّ! ولكنّها ستّ من نوع آخر لا تكتفي بالطنطور والفستان الطويل، رصّعت زناره حجارة كريمة تسترق الطرف على ذهبيّات تتدلّى من معصم أو تلمع على جيد. ولكنّها ستّ من نوع آخر، كأن تهبَ جزءاً من ذاتها، من محفوظاتها، الى المكتبة ففي عرفها، لا زالت المكتبة هي المعجن الذي نأكل من خبزه، والميناء التي ترسو مراكبنا فيه.
• وفي عادي الزمن، يتبادل الناس من ذوي القربى، ومن الأحبّة الهبات، أفهل تكون الستّ على أعمق صلة بالمكتبة الشرقيّة؟ أفهل جاءت بتواضع بنات الارض، تكرّم كوكبة ممّن كحّلت عيونهم كنوزها وخوابيها؟! من أمثال شيخو والمعلوف والبساتنة وعبد النور وآلار وبوزيه والرئيس العام السابق للرهبنة كولفنباخ الذي أبى إلاّ ان يعود الى حبيبته الشرقيّة. أظنّ أنّ تشوّشاً اعتراني فهل هي المكتبة التي باستقبالها المحفوظات شاءت أن توجّه تحيّة للستّ!؟ أم انّ الستّ رغبت في أن تبدي عاطفة حيال هذا المبنى الذي تغلبّت مكتبته ومخطوطاته وعيون مريديه على نشاز خطوط التماس، وبشاعات البطولات الغبيّة؟! وفي الحالتين يبدو الشغف سيّد الموقف، وللّـه الحمد أن تكون مساحة الشغف هي التي تضيء، بين الفينة والفينة، سواد الارقام والحسابات وجداولها. وكيف لمن يهتمّ بمؤلّفات الاولاد أن يستوطن عميلات الحساب الأربع؟ بل كيف لمن ينقل لسانه الى ألسنة اخرى، أن يؤلّف ما يطلبه المستمعون، وأن يكتب للمواسم، بل هي قرّرت أن تذهب الى العالم بثيابها بحقيقتها فلم تتبرّج بما يرضي القارىء بلسان عربي أو بألسنة اخرى. كتبت تكريماً للأرض وللمرأة، كتبت ما يحلو لها، معتبرة أنّ فعل الكتابة، صناعة الكتابة، لا تستقيم إلاّ إن صارت من لحم الكاتب ودمه، تفتح الكتاب فتترأى لك الستّ تماماً كما هي. والغرب الذي استضاف كتبها انّما استضافها هي، الستّ اميلي، فأحسّ بانّ تمشرقاً أو تلبنناً يجذبه، ويقول له بأنّ الآخر ليس مرآة انعكس فيها، إنّما هو بخصوصيّته وتميّزه، وإلاّ استحال الجميع الى مستهلكين متشابهين. وقد روت سنة 2013 في الندوة التي ضمّت كوكبة من الروائيين والمترجمين والناشرين، بمناسبة يوم اللّغة العربيّة العالمي الذي تحتفل به كليّة اللّغات في جامعتنا سنويّاً، كيف تمّت ترجمة “طيور أيلول” و”الاقلاع عكس الزمن” الى الانكليزيّة وكيف اتّصل بها هارتموت فيندريش – وكان مشاركاً في الندوة – مستأذناً إلباس طيور أيلول ريشاً ألمانيّاً.
• فرادة وخصوصيّة وتنوّع، تشبه الى حدّ بعيد جامعتنا، وذخيرتها المكتبة الشرقيّة، على أن تكون طيور أيلول بمثابة السفراء تحمل في مناقيرها حقيقة بلد ترى الستّ فيه نفسها فلاّحة همّها الأمانة لذاتها ولآخر سنديانة أو كرم أو بيدر في آخر ضيعة في الجبل أو الجنوب أو الشمال، وهاجسها ألاّ تعيش في “جزيرة الوهم” إنّما في الوطن الصغير بملحه وخلّه، تماماً كما تعيش فيه بعسله وقمحه.
أ.د. هنري عويس*
العميد الفخري لكلية اللغات والترجمة – جامعة القديس يوسف- لبنان