صحافة لبنان: صعودها وأفولها.. هل من آفاق وحلول؟..بقلم جوزيف القصيفي

جوزف القصيفي
كانت بيروت في السبعينيات من القرن المنصرم مكتبة العرب ومطبعتهم. كانت أكشاك المكتبات تنوء بالصحف اليومية والمجلات الاسبوعية: المستقلة منها التي كانت توفر لاستمرارها تمويلاً ذاتياً من البيع والاعلانات والاشتراكات، من دون الارتباط بجهة داخلية أو خارجية أو أن تكون ناطقة بلسان أحد الانظمة العربية أو الأحزاب القطرية والأممية. ومنها الملتزمة قلباً وقالباً المغطاة مالياً من “البابوج الى الطربوش”، وكانت هذه الصحف والمجلات “متاريس” اعلامية متقدمة تصول وتجول بسلاح الكلمة، وتشن الهجمات وتتبادل “اللكمات” السياسية على حلبة الصفحات المليئة بالأخبار”المفبركة” خصيصاً للنيل من “الخصم” او “المحورة” لخدمة هدف سياسي، عدا التحليلات والقراءات الموجهة لتتماشى مع هذا الخط أو ذاك.

لا يمكن التبسّط في الحديث عن هذه الصحف والمجلات في مقال، ولا يمكن للذاكرة أن تحوط بأعداد هذه المطبوعات وأسمائها، فهي كانت تتناسل حيناً وتتناقص أحيانا وفق “تكتيك” الممول ومزاجه. ولكن أكثر الدول العربية دخولاً على خط الصحافة في ذلك الحين وصولا إلى مطالع التسعينيات، كانت العراق، وهي قد تكون الدولة الأكثر إنفاقا على هذا القطاع في لبنان منذ تسلم “حزب البعث العربي الاشتراكي” مقاليد الحكم فيها، كما لم تكن أقل سخاء في العهد الملكي وإبان حكم كل من عبد الكريم قاسم والأخوين عارف: عبد السلام وعبد الرحمن. لكن في مرحلة ما قبل البعث لم يمتلك العراق صحفاً ومجلات لبنانية، بل كان يساند البعض منها ويجزل لها العطاء، كما كانت هناك مخصصات لكبار الصحافيين والكتّاب الذين كانوا يروّجون لسياسته و”يمجدون” مواقف قادته.

تلي ليبيا العراق من حيث الانخراط في لعبة استقطاب الصحافة اللبنانية، وهي دفعت مبالغ طائلة لإنشاء صحف لم تلبث ان استقلّت عنها تحت وطأة احوال معينة من دون مناصبتها العداء المكشوف، ومنها من ظلت على وفائها لكنها لم تعمّر. لكن طرابلس الغرب كانت تخصّص ملايين الدولارات سنوياً بدل اشتراكات لصحف ومجلات لبنانية مستقلة، اضافة – شأنها شأن العراق – الى دعم مجلات تعود ملكيتها الى لبنانيين كانت تصدر في لندن، باريس، القاهرة، قبرص.

ولم تشذ السعودية والكويت ودولة الامارات العربية المتحدة عن قاعدة دعم الصحافة اللبنانية، ولكن على نحو مختلف، فكانت توجه دعمها للصحف غير المرتبطة باي نظام عربي، وتقوم بتمويل أعداد سنوية خاصة بدولها صادرة عن هذه الصحف، وغالباً ما يكون الدعم سخياً، كما كانت تسدّد اشتراكات وتوزع اعلانات عائدة الى شركات طيرانها ومنشآتها العامة، بيد مبسوطة ولكن وفق معيار استنسابي، مع الارجحية لاصحاب الصحف والمجلات الذين لا يمكن التوجس منهم وتوقع مفاجآت غير محسوبة معهم.

أما سوريا لم تكن لتهتم بهذا الامر قدر اهتمام العراق وليبيا، وكانت هناك صحف متعاطفة معها فتحت أمامها اسواقها وقطاعها الاعلاني العام وابواب الاشتراكات المجزية من قبل رجال اعمالها.

كذلك، فان المغرب كان لا يقبض يده، كما الجزائر، عن مساعدات متقطعة للصحافة اللبنانية. واذا كان الاول يخصص هباته للصحافة ذات التوجه اليميني، فإن الثانية كانت تساند الصحافة ذات المنحى القومي واليساري. على ان تونس بورقيبة وبن علي كانت الدولة المغاربية الاولى التي تهتم بامر الصحافة اللبنانية بانتظام.

الى ذلك، فان وجود “منظمة التحرير الفلسطينية” بالتنظيمات المتنوعة المنضوية اليها، كان عاملاً من عوامل اغراق السوق اللبنانية بالصحف والمجلات التي تتناول القضية الفلسطينية من سائر جوانبها من خلال المنظار السياسي والعقائدي والفكري لهذه التنظيمات، وقد رصدت لاصدارها مبالغ طائلة، واستوعبت مئات العاملين بين صحافيين ومصورين ومخرجين واداريين وعمال طباعة وموزعين من الجنسيات الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية واليمنية… الخ. أهم هذه المطبوعات: وكالة الانباء الفلسطينية “وفا”، “فلسطين الثورة” التي صدرت لفترة قصيرة جريدة يومية ولم تلبث ان تحولت الى مجلة اسبوعية، ومجلات “الحرية” الناطقة باسم “الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين”، و”الى الامام” الناطقة باسم ” الجبهة الشعبية – القيادة العامة” وكانت ملكية هذا الامتياز تعود الى اللبناني نسيب نمر، “الهدف”وهي الناطقة باسم “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” وكان يصدرها من قبل الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي قضى اغتيالاً، و”الأفق” الناطقة باسم “جبهة التحرير الفلسطينية”، و”الثائر العربي” الناطقة باسم “جبهة التحرير العربية”، و”نضال الشعب ” الناطقة باسم “جبهة النضال الشعبي”. وذلك عدا المجلات والدوريات المتخصصة الصادرة عن هيئات واتحادات ثقافية، فكرية، نقابية فلسطينية مثل “شؤؤن فلسطينية”، “الكاتب الفلسطيني”…الخ.

الصحافة الحزبية في لبنان لم تعرف صدوراً منتظماً، ولعل الحزبين اللذين ضربا الرقم القياسي في اصدار صحف ومجلات منذ ثلاثينيات القرن المنصرم هما:

“الحزب الشيوعي اللبناني” الذي أصدر “النداء” يومياً الى حين توقفها في التسعينيات، وكان اضافة اليها يمتلك عدة امتيازات منها “الاخبار”و”صوت الشعب” وقد صدرتا على نحو غير منتظم في استحقاقات وأحوال معينة.

“حزب الكتائب اللبنانية” الذي أصدر جريدة “العمل” من دون انقطاع من العام ١٩٣٩ الى العام ١٩٨٩. لتعود الى الصدور يومية في العام ١٩٩٥ حيث توقفت في تشرين الثاني منه نهائياً، ولم تعد الى الصدور قط باستثناء ما ندر في مناسبات حزبية.

يلي هذان الحزبان “الحزب السوري القومي الاجتماعي” الذي اصدر منذ تأسيسه عدداً من المطبوعات، منها يومية “البناء” العام ١٩٥٨ قبل ان تحتجب، وتتحول من ثم الى اسبوعية، لتعود الى الصدور يومياً ابتداء من العام ٢٠٠٩. وكان الحزب قد اصدر مجلتين اسبوعيتين هما “النهضة” و”صباح الخير”.

“حزب القوات اللبنانية” أصدر مجلة أسبوعية باسم “المسيرة” في الثمانينيات، وقد تم تشريعها في أوائل التسعينيات، فابتاعت القوات امتيازاً سياسياً اسبوعياً هو “النجوى” من مالكَيها نائب نقيب المحررين الحالي سعيد ناصرالدين ونديم العماد، فيما اشترت كذلك امتياز “المسيرة” الادبي من صاحبه بعدما تبين للحزب انه مسجل على ملكيته في وزارة الاعلام ونقابة الصحافة، وهي بناء على قرار رئيسها سمير جعجع كانت حريصة على قوننة هذه المجلة تحسباً لاي اشكالات ومشكلات، ولا تزال “المسيرة “تصدر حتى اليوم.

وبصورة غير منتظمة ما تزال تصدر جريدة “بيروت المساء” عن “منظمّة العمل الشيوعي” بإشراف محسن إبراهيم، بينما تصدر مجلّة الراية عن “حزب البعث العربي الإشتراكي” بإشراف فايز ثريا.

اما “حزب الوطنيين الاحرار” فكان قد أصدر جريدة باسم “صوت الاحرار”، ولما لم يكن في سجل الامتيازات في نقابة الصحافة أي وجود لهذا الاسم، بل ان هناك امتيازاً يوميا تحت اسم “الاحرار” تعود ملكيته الى “حزب البعث العربي الاشتراكي” الموالي للنظام العراقي في حينه، وتداركاً لاشكالات قانونية قدم النقيب ملحم كرم أحد الامتيازات التي يملك “العاصفة” لتشكل التغطية القانونية لهذه الصحيفة التي صدرت من العام ١٩٧٦ الى العام١٩٨٨. وكانت تصدر عن الحزب مجلة “صوت النمور” وهي التنظيم العسكري للحزب.

وهناك صحف كان يصدرها حزبيون من دون ان تكون حزبية تماماً كـ “الجمهورية” التي اصدرها سجيع الاسمر وتابع نجله هنري اصدارها بعد رحيله وكانت قريبة الى “الكتلة الوطنية” قبل ان تؤول ملكيتها الى آل المر. و”الشمس” التي اصدرها اسبر الغريب وتابع اصدارها نجله كمال الى ان تملّكها عبد الهادي محفوظ وهي كانت مساندة لسياسة الرئيس كميل شمعون وحزبه.

أما الرئيس امين الجميل فقد اصدر جريدة ناطقة بالفرنسية هي “لوريفاي” وقد أحيا امتيازها المائت الذي كانت تعود ملكيته لالكسندر خوري، وقد اضطر في حينه (النصف الثاني من السبعينيات) إلى دمج يوميتي “الرواد” و”الاكسيون” لإجازة استعمال اسم “لوريفاي”، وفي ابان رئاسته شرعت “الريفاي” كامتياز قائم وألغي الدمج، وعادت كل من “الرواد” و”الاكسيون” الى وضعيتهما السابقة كامتيازين منفصلين.

وعلى سيرة الامتيازات الصحافية الحزبية المحتجبة، هناك جريدة “صوت العروبة” الناطقة باسم “حزب النجادة” التي آلت الى ورثة مؤسس الحزب ورئيسه عدنان الحكيم، وقد اشتراها الرئيس رفيق الحريري.

ولـ”الحزب التقدمي الاشتراكي” امتياز باسم “الأنباء” كانت تصدر منذ العام ١٩٥١ولم تتوقف عن الصدور جريدة فمجلة، وكانت تتميز بافتتاحية لافتة يكتبها رئيس الحزب كمال جنبلاط وتعكس مواقفه من الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستمرت في الصدور بعد اغتياله في العام ١٩٧٧، وهي تصدر حالياً ولكن الكترونياً.

في حين أن حركة “أمل” تمتلك امتيازين هما “العواصف” وهي لاتزال تصدر اسوعياً و”الزمان”. اما “الجماعة الاسلامية” فتصدر مجلة “الامان”. فيما امتلك “حزب الله” امتياز”الانتقاد”. وأصدر “تجمع العلماء المسلمين” مجلة “البلاد” لسنوات قبل ان تحتجب. وكانت “الحرية” التي يمتلك امتيازها محسن ابراهيم ناطقة باسم “منظمة العمل الشيوعي” التي احتجبت منذ سنوات.

كما ان هناك امتيازات سياسية يومية وأسبوعية صدرت بصورة غير منتظمة او لم تصدر امتلكها سياسيون لبنانيون مثل “الرابطة الشرقية” لصاحبها الرئيس كامل الاسعد، و”الحديث” للنائب والوزير الراحل جوزف سكاف وآلت في مابعد لنجله النائب والوزير الراحل ايلي سكاف، وهي حالياً في عهدة زوجته السيدة ميريام.

وهناك “الرقيب” لآل كرامي، ويصدرها حالياً الصحافي خضر طالب أسبوعية.

وكان الوزير والنائب محسن دلول قد امتلك مجلة “البلاغ”. وكان سبق للنائب والوزير الراحل خليل أبوجوده ان امتلك امتيازاً يومياً هو “الدستور”. على ان الوزير السابق ميشال اده يمتلك غالبية أسهم الجريدة الفرنكوفونية الوحيدة في لبنان وهي “الاوريان لوجور”.

إضافة الى ذلك هناك صحف أرمينية تصدر عن حزبي “الطاشناق”و”الهانشاق”. ولعل الصحيفة الحزبية الوحيدة التي لا تزال تصدر يوميا بانتظام هي جريدة “المستقبل” التي تنطق باسم التيار الذي أسسه الرئيس رفيق الحريري ويحمل هذا الاسم.

هذا هو المشهد العام للصحافة اللبنانية التي خاضت صراعاً وجودياً من أجل ان تبقى وتستمر، لكن الوهن والتعب أدركاها بعد الشح في الموارد، وسوء استخدامها، وعدم الإفادة من الدعم الذي كانت تحصل عليه من اجل تطويرها وفتح آفاق جديدة لها. كان اصحاب الصحف على وجه الاجمال يرتعون في بحبوحة و”يقترون”على العاملين في صحفهم، مع استثناءات، خصوصاً بالنسبة الى دور الصحف التي سعى أصحابها لتحويلها الى مؤسسات حديثة تستوفي الشروط العلمية والموضوعية. ومنهم من كان لا يرتقب ان تتضاءل الموارد الخارجية الى هذا الحد. فالانظمة التي كانت تغدق الاموال من دون حساب لم تعد موجودة، و”منظمة التحرير” لا حضور لها في لبنان يتعدى تخوم المخيمات ومشكلات الفلسطينيين. اضافة الى ان الدول الخليجية باتت تمتلك مؤسسات اعلامية ضخمة، خصوصاً في القطاع المرئي والصحافة الالكترونية.

الى ذلك، فإن الصحافية الورقية الى تراجع وأفول عالمياً، ولكنها في لبنان هي في مرحلة “فول داون” بسرعة يصعب وقفها، اذا لم تستدرك الادمغة المهتمة الأمر بصوغ دور جديد لها، ورؤية عصرية، تعيد للصحافة مكانتها بمفهوم مختلف تماماً. وفي أي حال، فإن الصحافيين هم الضحية الكبرى.

والسؤال المطروح: أين الدولة من كل ذلك؟ ألم تشكل الصحافة اللبنانية عبر تاريخها ذاكرة لبنان، ومنبراً لأحراره وأحرار العرب، وسجل الوقوعات الوطنية والسياسية التي توالت عليه وعلى الدول العربية؟ ألم تكن صفحاتها مشرعة لابداعات الكبار من كتاب وادباء وشعراء ومفكرين وفلاسفة؟ وهل يجوز التخلي عن هذا الارث الحضاري بسبب شح الموارد المالية؟ ألا يستأهل الموضوع عقد مؤتمر وطني لانقاذ الصحافة اللبنانية ويرسم لها معالم الطريق ويصوغ دورها المستقبلي؟

جوزيف القصيفي*
أمين سر نقابة محرري الصحافة اللبنانية

لمشاركة الرابط: