صدر أخيراً كتاب العالم الفرنسي المثير للجدل ديدييه راوول تحت عنوان: “أوبئة، أخطار حقيقية وإنذارات خاطئة” Épidémies vrais dangers et fausses alertes” عن مطبوعات ميشيل لافون 2020. وهو عبارة عن كتاب/ وثيقة يقع في حجم صغير لا يتجاوز 98 صفحة، لكنه مكثف بالمضامين والمعطيات العلمية حول تاريخ الأوبئة، التي انتشرت خصوصاً في المجتمعات المعاصرة.
والبروفيسور راوول هو أحد كبار العلماء الباحثين في علم الأوبئة والأمراض المعدية. ولد بداكار عاصمة السنغال عام 1952، يترأس حالياً معهداً تابعاً للمستشفى الجامعي للأمراض المعدية بمرسيليا. أثار هذا البروفيسور جدلاً كبيراً في العالم أخيراً، بدفاعه عن الكلوروكين كدواء لوباء كوفيد 19، وهي المادة التي لم توافق عليها منظمة الصحة العالمية إلا للحالات الحرجة فقط، وذلك بسبب الآثار الجانبية لهذا الدواء كما تقول. موقفه هذا جعله معادياً للصناعات الدوائية في العالم.
كما عرف الطبيب الفرنسي أيضاً بانتقاداته الشديدة للتدابير التي اتخذتها فرنسا، والعديد من الدول الأخرى في مكافحة هذا الفيروس، مثل طريقة الحجر الصحي التي اعتبرها منهجية بائدة تعود إلى القرون الوسطى، لذلك في نظره كان من الأولى القيام بفحص شامل للسكان le dépistage de masse مثلما فعلت بعض الدول مثل كوريا الجنوبية.
غلاف الكتاب (دار النشر)
فيروس عادي
إن الفكرة الأساسية التي يدافع عنها ديدييه راوول في كتابه هذا، هي أن فيروس كورونا ليس سوى فيروس عادي من بين العديد من الفيروسات الموجودة في العالم، والتي تقدر بـ20 فيروساً، والتي تعد نسبة الوفيات فيها مرتفعة جداً إذا ما قورنت بنسبة وفيات كورونا. لذلك في نظره تم التهويل كثيراً من خطورة كوفيد 19، وسلطت عليه وسائل الإعلام كثيراً من الأضواء، كل ذلك من أجل توظيف الوباء لأغراض سياسية أو اقتصادية. فالبحث العلمي إذن في نظر الباحث غير مرتبط بالغايات الإنسانية النبيلة، أي بالعناية بالصحة البشرية، بل فقط بالربح الاقتصادي أو بالأغراض السياسية، يقول الباحث في هذا الكتاب إن: “سوق اللقاحات أسير بالكامل للقرار السياسي. لا يمكن لأي مختبر الالتزام بصنع اللقاحات ما لم يكن لديه ضمان بشرائها أو التوصية بها من قبل الدوائر الحكومية”.
وبحسب ما جاء في الكتاب، فإنه خلال العقود الأخيرة كانت هناك عدة إنذارات كاذبة بصدد الكثير من الفيروسات، مثل إنفلونزا الدواجن، وباء إنفلونزا H1N1، وفيروس كورونا التاجي، والسارس والإيبولا والجمرة الخبيثة والشيكونغونيا وزيكا… كل هذه الفيروسات قيل إنها ستقتل الملايين من البشر، لكن لا شيء من ذلك حدث فعدد الوفيات لم يكن مؤثراً. لقد تم إنفاق المليارات على العقاقير التي لم تر النور، واللقاحات التي لم تنجح. ويستمر الكاتب في استعراض الأخطاء التي رافقت ملف الفيروسات، بدءاً من فيروس الجمرة الخبيثة التي تم اتهام صدام حسين بامتلاكها وتبين في ما بعد خطأ هذا الاتهام. كما تم إذكاء مشاعر الخوف لدى الناس بخصوص الإرهاب البيولوجي، لكن سيتبين بوضوح كما يقول الكاتب: “اكتشاف كذبة الدولة”.
هذا الأمر ذاته حدث بالنسبة للإيبولا وهي عبارة عن حمى نزيفية، ظهرت بداية في الكونغو الديمقراطية وقد كانت هناك أيضاً مبالغة جسيمة في عدد الحالات، التي تم التصريح بها. بل حتى السينما ساهمت في هذا التهويل وانتشار المعلومات الخاطئة، من خلال تصويرها للشخصيات وهي ترتدي بدلات الغوص، في حين أن هذا الفيروس لا ينتقل إلا من خلال الاتصال المباشر. ويشير ديدييه راوول إلى أن عدداً قليلاً جداً من الحالات وصلت إلى أوروبا، ولكن الخوف والذعر من هذا المرض، تسبب في مشكلات في التعامل مع هذه الحالات القليلة. ويؤكد البروفيسور راوول أن فريقه البحثي، حقق تقدماً باهراً في تشخيص وتحديد طبيعة العديد من الفيروسات، غير أن جهات أخرى كانت مولعة كما يقول بكتابة الروايات وخلق التشويق، حول هذه المواضيع، لذلك ظلت ترفض الاعتراف بهذه النتائج كما لو أنها تريد الإبقاء على حالة الخوف والذعر.
إن ما يصدق على الفيروسات السابقة يصدق كذلك على السارس، هذا الفيروس الذي كما يصفه الباحث ظهر فجأة واختفى فجأة في 2003. حيث يرى الباحث أن الذعر الذي رافق ظهوره لم يكن مناسباً بالمرة، وهو الفيروس الذي قتل 800 شخص، في حين أن الوفيات السنوية ـ كما يقول الباحث دائماً ـ بسبب الالتهابات الفيروسية، والبكتيرية التنفسية في ذلك الوقت، كانت ما بين 4 ملايين و5ملايين
متظاهرون فرنسوين يرفعون صورة راوول دعما للجهاز الطبي في بلادهم (غيتي)
مسؤولية منظمة الصحة
أما بخصوص إنفلونزا الطيور فيرى الباحث أنه سنة 2004، ظهرت سلالة فيروسية شديدة الخطورة في الطيور، وهو ما أثار الهلع في العالم مخافة انتقال الفيروس من الطيور إلى البشر، وسبب هذا الهلع كانت وراءه منظمة الصحة العالمية، التي يوجه لها الكاتب انتقاداته قائلاً: “غالباً ما تتخذ منظمة الصحة العالمية إجراءات صارمة وتنتهي بإشعال النار في كوكب الأرض”. على الرغم من أن هذا الوباء لم يقتل هو كذلك سوى أقل من 250 شخصاً. وبسبب هذه المخاوف والإنذارات الكاذبة، تم رصد موازنة كبيرة من أجل إيجاد لقاح لفيروس جد محدود. كل هذا كان بسبب الأخطاء التي وقعت فيها المديرة السابقة لمنظمة الصحة العالمية مارغريت تشان.
ويصل الباحث في سياق استعراضه لتاريخ الفيروسات إلى كورونا، الذي يقول بأنه ينتمي إلى عائلة كبيرة من الفيروسات تتميز جميعها بكونها، محاطة بشكل يشبه التاج. وهي السبب الرئيسي الثالث لعدوى الجهاز التنفسي الفيروسية. تم اكتشاف هذه النوعية من الفيروسات عام 1965 عن طريق تيرل وبينو، وكان آخر هذه الأنواع فيروس السارس الذي تم تحديده في عام 2003 وقد تسبب آنذاك في وفاة 880 حالة، قبل أن يختفي كي يعود للظهور في السعودية في عام 2012. وفي الأخير تم عزل الفيروس التاجي الصيني في عام 2019. ويرى الكاتب أن ظهور فيروس كورونا الصيني ـ هكذا يسميه ـ خلق هلعاً عالمياً، على الرغم من أن معدل وفياته ضعيف نسبياً مقارنة ببقية أنواع الفيروسات. كما يشيد بالتدابير الصينية التي تمكنت من محاصرته، بخاصة مع استعمال الكلوروكين، إذ كان من المنتظر أن يصبح هذا الفيروس أبسط التهاب تنفسي، لكن للأسف طريقة التعامل معه من قبل وسائل الإعلام والمؤسسات السياسية، جعلت منه موضوعاً جديداً للأكاذيب. لقد تحكمت مصالح المختبرات التي تنتج اللقاحات، في كل ما يقال حول هذا الفيروس، بينما تم تهميش وعزل تدخل الخبراء والباحثين. ويشير الكاتب إلى أنه تلقى تهديدات بمنعه من نشر أي حقائق أخرى عن هذا الفيروس، وأنه أنشأ وبعض زملائه موقعاً إخبارياً أسبوعياً على Youtube بعنوان “لدينا الحق في أن نكون أذكياء”، فقط لكشف الأكاذيب التي تروج حول كورونا.
بين العلم والمصالح
ما نستفيده من كتاب البروفيسور ديدييه راول، هو تأكيده على ضرورة الفصل بين النشاط العلمي والمصالح الاقتصادية والسياسية من جهة أولى، ومن جهة ثانية أهمية التحقق من المعلومات العلمية، وعدم تركها للتلاعبات الصحافية الباحثة عن الفرقعة الإعلامية. فما هو أكيد هو أننا عشنا في العقود الأخيرة العديد من الإنذارات الكاذبة كما سماها راوول، والتي كلفت العديد من الدول صرف موازنات كبيرة، من أجل اقتناء أدوية تبين في ما بعد عدم فعاليتها أو خطورتها على الصحة العامة، مثل فضيحة عقار “تاميفلو” Tamiflu التي نسي البروفيسور أن يذكرها في كتابه، حيث تم إنفاق مليارات الدولارات حول العالم لبناء احتياطيات، في حالة تفشي جائحة إنفلونزا H1N1 في عام 2009. كما لا يتعرض ديدييه راوول بالمناقشة لأطروحة مواطنه لوك مانتانييه، الذي أعلن أن فيروس الكورونا ليس فيروساً طبيعياً، بل هو مصنّع بشرياً وأنه يتضمن سلسلة من الحمض النووي المأخوذة من فيروس السيدا.
وباختصار نقول إنه في المجتمعات المعاصرة، لم يعد البحث العلمي يتحلى بالاستقامة والنزاهة الأخلاقية، ذلك أن العالم اليوم، ما عاد هو ذلك الإنسان الحر، الذي يبحث في مواضيعه منكباً على العثور على حقيقة الظواهر المدروسة بكل موضوعية، كما كان الأمر في عصر النهضة. فالباحث ينتمي دائماً إلى مؤسسة أكاديمية تابعة لشركة ما أو لجهاز سياسي، مما يجعل التصريح بالحقيقة خاضعاً لغايات محددة سلفاً. لكل هذه الأسباب وغيرها علينا أن نكون حذرين، وأن نحتفظ بمسافة نقدية مما يقال وينشر وكما قال الفيلسوف الإغريقي هيراقليط: “علينا أن نحرك الكثير من التراب للعثور على القليل من الذهب” لذلك لعل كتاب البروفيسور ديدييه راوول الذي يندرج ضمن العلماء غير التقليديين، هو واحد من الكتب التي تحثنا على ضرورة يقظة وعينا، في عصر كثرت فيه الأكاذيب والحقائق المفبركة.المصدر: اندبندنت
حكايةُ قبر أُمّي..
كانت والدتي رحمها الله تقولُ لنا في سهراتنا الطويلة : ” إدفنوني بين أهلي لأنني آنَسُ بهم .. فَلَكَمْ أبصرتُ مقبرةَ قريتنا في شبعا بعدَ ذوبان ثلج حرمون تنقلبُ حديقةً غنّاءَ ، تَنْبُتُ في ثناياها أشجارُ الجوز والحور والبيلسان .. وزهر الياسمين . أوصتني أمي وأنا بعد صغيرة فقالت :” لا تدفنوني بعيداً عن أهلي
Read More