
إكرام صعب
نظّم النادي الثقافي العربي ندوة تكريمية بعنوان “مئوية سليمان البستاني”، لمناسبة مرور مئة عام على رحيل الأديب والمفكر والمترجم النهضوي سليمان البستاني، أحد أبرز رواد عصر النهضة في العالم العربي، وذلك في قاعة “سي سايد أرينا” ضمن فعاليات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب الـ66.
أدار الندوة الكاتب سليمان بختي، وشارك فيها كل من الكاتب سلمان زين الدين، الكاتب والأكاديمي ربيعة أبي فاضل، والصحافي والكاتب حبيب يونس، في حضور رئيسة النادي الثقافي العربي السيدة سلوى السنيورة بعاصيري ، إلى جانب وجوه ثقافية وتربوية وصحافية.
بختي: المثقف الشامل المتعدّد الأبعاد
افتتح بختي الندوة بكلمة سلط فيها الضوء على تعدّد اهتمامات البستاني، بين الترجمة والأدب والسياسة واللغة، واصفًا إياه بـ”المثقف المتكامل” الذي لم يعرف الكسل، وكان يُحسن التنظيم والتفكير والتأليف، وقدّم مشروعًا حضاريًا متماسكًا.و أشار إلى دعوة البستاني لتوحيد التعليم الرسمي وإلغاء التمييز بين الذكور والإناث، فضلًا عن موقفه مناهضًا للتعصّب والطائفية.
كما تطرّق بختي إلى مجلة البستاني “المعرض” التي أُقفلت بسبب تضاربها مع السلطات العثمانية، لافتًا إلى انتقاله لاحقًا من ميدان الثقافة إلى الشأن العام، حيث تولّى منصب وزير الزراعة في إسطنبول، قبل أن يستقر في الولايات المتحدة الأميركية ويتوفى هناك عام 1925.
أبي فاضل: “نقل الإلياذة إلى العربية… إنجاز حضاري”
من جانبه، قدّم الأكاديمي والكاتب ربيعة أبي فاضل قراءة أدبية متعمّقة في إنجاز البستاني الأهم، ألا وهو ترجمته الكاملة للإلياذة إلى العربية شعرًا، وهو أول من فعل ذلك في تاريخ الأدب العربي.
وقال أبي فاضل إنّ العرب لم يعرفوا الملاحم كما عرفها اليونان، مستندًا إلى رأي ابن النديم، وأنّ محاولة البستاني جاءت ضمن وعي نهضوي شامل، ورؤية حضارية لبناء توازن ثقافي مع الغرب. وأوضح أن البستاني أمضى نحو 16 عامًا يعمل على الترجمة، مستعينًا بيسوعيين ومتقنين لليونانية القديمة، ليُخرج عملًا بلغ اثنتي عشرة لغة في ملاحقه وشرح حواشيه.
وأضاف: “البستاني قارَنَ بين الجاهلية العربية واليونانية، وأثبت أنّ العرب كانوا قادرين على البطولات الشعرية لو أتيحت لهم أدوات الترجمة والمعرفة”، مؤكدًا أن ترجمته لم تكن نقلًا آليًا بل تعريبًا أدبيًا يدمج بين الدقة العلمية والجمال اللغوي.
زين الدين: “البستاني نَسَج من الأدب سياسة… ومن السياسة إصلاحًا”
أما الكاتب سلمان زين الدين فجمع في مداخلته بين أدب البستاني وفكره السياسي. فرأى أن ترجمة الإلياذة لم تكن مجرّد تمرين لغوي بل مشروع ثقافي متكامل، وشرح كيف اختار البستاني الترجمة الشعرية لا النثرية، ما جعله يبتكر أساليب جديدة، ويعيد تشكيل المعنى داخل بنيات عربية تقليدية.
كما توقّف عند مقدمة البستاني الشهيرة للعمل، حيث أهداه إلى الشعراء العرب، مشيدًا بجمال الأسلوب وثراء الفكرة. ولفت إلى أن البستاني لم يكتف بالترجمة، بل كتب في الفلسفة والاجتماع والسياسة، ومن أبرز أعماله السياسية كتاب “الدولة العثمانية” الذي تضمّن مقترحات إصلاحية جريئة، منها حرية التعليم وحرية المعتقد وفصل السلطات.وأضاف زين الدين: أن البستاني نادى بحقوق الأقليات وبنظام لا مركزي، وكان صاحب فكر تقدمي يُعدّ من الآباء المؤسسين للنهضة الحديثة.
يونس: “هل يُترجم الشعر؟ “
اختُتمت الندوة بكلمة معبّرة من الصحافي والكاتب حبيب يونس الذي وجّه تحية وجدانية وعقلانية إلى روح سليمان البستاني، داعيًا إلى تحويل فكر النهضويين من مناسبات أرشيفية إلى منهجٍ حاضر في الحياة الثقافية والسياسية.
وسأل يونس بأسلوب تأمّلي: “هل يُترجم الشعر؟” مستعرضًا رأي الجاحظ بأن موسيقى الشعر تضيع في الترجمة، وناقش كيف تجاوز البستاني هذا التحدي بأن جعل من الترجمة الشعرية ضربًا من الإبداع الجديد. واستعرض يونس مناهج الترجمة الثلاثة التي عرفها العرب منذ حنين بن إسحاق: الحرفية، الحرة، والمعنوية، وأكد أن البستاني لجأ إلى المنهج الثالث، أي الترجمة المفهومية ذات الروح الأصيلة.
وتوقف عند مهارة البستاني في التصرّف الإيقاعي، إذ اختار عشرة أوزان شعرية من بين ستة عشر وزنًا عربيًا، وركّبها بما يناسب المواقف المختلفة في ملحمة هوميروس، فكان يحاكي الصوت والنبض والدراما في كل موقف. وأضاف أن البستاني لم يكن فقط ناقلًا بل مُبدعًا، لم يُفرض عليه نصٌ بل اختاره بشغف، فدرسه وتملّكه قبل أن يصوغه باللغة العربية بأسلوبٍ رفيع.
وختم يونس قائلًا:”سليمان البستاني لم يكن ترفًا أدبيًا في عصر النهضة، بل هو نموذج من نماذج التقدّم العربي الذي نحتاج اليوم أن نعيد إحياءه، لا في الكلام، بل في الفعل، لكي لا تبقى النهضة ملفًا مغلقًا في ذاكرة القرن العشرين”.