
إكرام صعب
نظم النادي الثقافي العربي ندوة فكرية عميقة تناولت موضوع تفسير الأحلام في التراث العربي والإسلامي، بحضور شخصيات أكاديمية وثقافية بارزة، منهم الرئيس السابق فؤاد السنيورة ورئيسة النادي سلوى السنيورة بعاصيري، بالإضافة إلى أساتذة وباحثين مختصين في التراث الإسلامي والأدب.
افتتحت الندوة الباحثة والأكاديمية د. لينا الجمال، التي قدمت محاضرة متميزة استعرضت فيها دور الأحلام في التراث الإسلامي، مركزة على العلاقة المعقدة بين عالم المنام والسلطة السياسية، وكيفية توظيف هذه الرؤى لتبرير القرارات السياسية وتعزيز شرعية الحكام. وقد شاركت د. الجمال في تحقيق كتاب “البشارة والنذارة في تعبير الرؤيا ” لأبي سعد الخركوشي، الذي ظل قرونًا منسوبًا خطأً لابن سيرين.
الندوة كانت من تنظيم النادي و كرسي الشيخ زايد للدراسات العربية والإسلامية،عرض خلالها الباحث الدكتور بلال الأرفه لي موضوعًا لافتًا حول تفسير الأحلام، انطلق فيه من كتابه والدكتورة لينا الجمّال “إني رأيت في المنام” الذي يضم مختارات من نوادر الرؤى، جامعًا بين الدقة العلمية والروح الأدبية.
وتحدث الأرفه لي عن مشروعه الأكاديمي الأكبر المسمى “إيقاظ المخطوطات من سباتها”، الذي يكرس فيه جهده مع الدكتورة الجمّال لتحقيق كتب تعبير الرؤى التي ظلت لفترات طويلة مخفية في الأرفف والمكتبات، مشيرًا إلى استمرار شعبية كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين في معارض الكتب رغم التطورات التكنولوجية الحديثة، معبّرًا عن ضرورة العودة إلى المصادر الأصلية لتحقيقها وتحريرها.
وردًا على سؤال حول الحضور الجماهيري والاهتمام الشعبي بكتب تفسير الأحلام، قال الأرفه لي: “عندما أقدّم لقاءً تلفزيونيًا في الإمارات، كثيرًا ما يُطلب مني نسخة من كتاب تفسير الأحلام، مما يدل على تعطش شعبي مستمر لهذا النوع من المعرفة. وهذا ما دفعني إلى العودة للمصادر الأصلية والعمل على تحقيقها وتحريرها، لأن الكثير مما يُتداول اليوم لا يستند إلى أصول علمية دقيقة”.
أما الجمال فأكدت أن التراث الإسلامي القديم تناول عوامل مثل زمان الرؤيا وأحوال الرائي واختصاص المعبر في تفسير الأحلام، لكنه أغفل دور “مكان المنام” الذي اعتبره غير مؤثر. إلا أن دراسة كتب الأدب العربي كشفت أن المكان يلعب دورًا في تشكيل مضمون الرؤيا. واستشهدت الجمّال بكتاب “الفرج بعد الشدة” للتنوخي، موضحة كيف تجلّى السجن كمكان في الرؤى ليس كبعد مادي فقط، بل برمزيته، حيث تحدثت الدكتورة الجمّال ضيفة الجلسة الاولى فاستحضرت منامات السجناء قصة النبي يوسف عليه السلام، الذي برز كعالم في تفسير الرؤى وخرج من سجنه بفضل رؤياه.
وتطرقت الجمّال إلى تحليل الرموز المعمارية في الأحلام، مبينًة أن المباني في المنام تعكس البنية الاجتماعية والثقافية، بما في ذلك الفوارق الطبقية والتمييز الجندري والدلالات النفسية، مشبهةً الرؤيا بالرحلة التي تنقل الحالم من فضاء إلى آخر دون ارتحال مادي.
وتوسعت الباحثة لينا الجمال في تحليل هذه الرموز المعمارية، مؤكدة الابتعاد عن فرض نظريات علم النفس الغربية مثل فرويد ويونغ على الثقافة العربية الإسلامية، وضرورة العودة إلى نظريات أصيلة داخل التراث العربي، كنظرية “عين القلب وعين الرأس” عند الغزالي وتجارب ابن الهيثم في الإدراك البصري، لفهم بنية الرؤيا في سياقها الثقافي والمعرفي.
وأشارت إلى تباين دلالات الرموز في كتب تفسير الأحلام تبعًا لاختلاف المذاهب والاتجاهات الفكرية لصناع هذه الكتب، مستشهدة برمز “الخبز” الذي كان يعبر عن الفقر والمرض في التعبير اليوناني القديم، بينما تطور في التراث الأدبي العربي إلى رمز للعيش الكريم والمعرفة الروحية. واعتبرت أن هذا الاختلاف يعكس تأثر كتب تفسير الأحلام بفكر وأيديولوجيات مؤلفيها، ما يجعل علم تفسير الأحلام يشبه “زهرة دوار الشمس” التي تتجه نحو فكر المؤلف.
وأوضحت أن الأحلام في التراث الإسلامي لم تكن مجرد ظاهرة فردية أو روحية، بل كانت أداة سياسية محكمة الاستخدام من قبل الحكام والسلطات، إذ اعتمد الخلفاء والأمراء على مناماتهم لتشريع حكمهم وتثبيت سلطتهم أمام الرعية،معتبرين الرؤى دليلاً روحياً يُبرر القرارات المصيرية،بما في ذلك الفتوحات التاريخية مثل فتح الأندلس والقسطنطينية.
كما تحدثت عن استغلال الرؤى الملكية في قراءة وتفسير دقيقين لتأكيد مشروعية الحكم والتأثير في الوعي الاجتماعي والسياسي، مشيرة إلى أن الأحلام كانت “وسيلة اتصال مع المطلق” كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم، تجمع بين البعد الروحي والسياسي معًا.
واعتبرت د. الجمال أن تحرير هذه الكتب وإعادة قراءتها بعين الباحث المعاصر هو استعادة لتراث مهمل، وفتح لنقاشات معرفية جديدة تتجاوز النظرة السطحية للأحلام، باتجاه فهم أعمق لتجليات الروح والثقافة في المنام.
وختمت د. الجمال مداخلتها بالتأكيد على أهمية مصارحة الجيل الناشئ مع الموروث الثقافي العميق، معربة عن أملها في إعادة صناعة الوعي بتاريخهم وتراثهم، واستثمار شغف الشباب بالتواصل مع التراث العربي لإحياء الحضارة.
الجلسة الثانية: تحوّلات الذّات والمؤرّخ
في الجلسة الثانية التي جاءت تحت عنوان “تحوّلات الذّات والمؤرّخ”، تحدّثت المؤرّخة والعميدة الدكتورة ناديا ماريا الشيخ، عن تجربتها الأكاديمية ومسيرتها البحثية، مسلّطة الضوء على تحوّلات الذات والعلاقة الشخصية مع التاريخ.
استهلّت الدكتورة الشيخ حديثها بالعودة إلى الطفولة، حيث نشأت في منزل يقدّر القراءة، لا سيّما كتب التاريخ، ما ساعدها على التميّز في هذا المجال لاحقًا. وقد أتقنت فنون البحث العلمي خلال دراستها الجامعية، وتعلّمت إعادة مساءلة السرديات التاريخية بإشراف أساتذتها. وذكرت كيف انتقلت لاحقًا إلى جامعة هارفرد، حيث بدأ اهتمامها بالتاريخ البيزنطي.
وأشارت إلى أن بداياتها في الكتابة التاريخية تعود إلى حقبة الثمانينات، وهي فترة اتسمت بتوتر في العلاقات بين الشرق والغرب، مما انعكس على مقارباتها البحثية. كما تناولت تأثير عودتها إلى لبنان بعد الحرب، في ظل أزمة مالية خانقة، على رؤيتها الأكاديمية. وأكدت أنها كانت أول امرأة تنضم إلى الهيئة الإدارية والتعليمية في كلية التاريخ في الجامعة الأميركية.
وقالت:”المكان يؤثّر على نوع التاريخ الذي يرغب الكاتب في تدوينه”، مشيرة إلى أن تجربتها الشخصية انعكست بوضوح في كتاباتها.
وتحدثت عن أعمالها ومؤلفاتها:الكتاب الأول: “بيزنطة كما يراها العرب”،تحدّثت عن مشروع هذا الكتاب الذي وُلد من اهتمامها بالرؤية العربية للإمبراطورية البيزنطية. وانطلقت من تفاسير القرآن الكريم، وذكرت أن الكتاب حاز اهتمامًا دوليًا بفضل دعم “مركز أبوظبي للغة العربية”، وقد تُرجم إلى التركية واليونانية.
أما الكتاب الثاني فكان بعنوان: “بلاط الخليفة المقتدر”،انطلق هذا العمل من اهتمامها بثقافة البلاط العباسي، حيث سعت إلى تعريف مصطلح “البلاط” وتحليل اللغة والمفردات المرتبطة بالحاشية والمجال المحيط بالخليفة. درست شخصية الحاجب و”الكهومانة”، وأبرزت تنظيم الفضاء حول الخليفة، مركّزة على شخصية الخليفة المقتدر الذي تولّى الحكم بعمر 13 سنة. ولفتت إلى وفرة المصادر حول هذه المرحلة، ما مكّنها من جمع معلومات ثمينة.
والكتاب الثالث كان بعنوان: “النساء والإسلام في العصر العباسي”، وتناول هذا العمل صور النساء في السرديات العباسية، وسعت فيه إلى فهم كيفية التعبير عن النساء في القصص التاريخية. وركّزت على مسألة “رسم الحدود مع الآخر”، مشيرة إلى أن المؤرخين يرون التاريخ كتسلسل من التحوّلات التدريجية، لا كوقائع ثابتة.
في ختام الجلسة، تمّت الإشارة إلى أن الدكتورة ناديا ماريا الشيخ هي أول امرأة تولّت عمادة كليّة الآداب والعلوم في الجامعة الأميركية في بيروت، وقد كان لها دور كبير في دعم كرسي الشيخ زايد للدراسات العربية
[email protected]