
إكرام صعب
نظّم النادي الثقافي العربي ندوة بعنوان «بين القراءتين الورقية والرقمية» ضمن نشاطات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 66 قدّمها الكاتب والباحث أحمد بزون، وتحدّث فيها مصمّم الحروف والنحات كميل حوّا، بحضور رئيسة النادي الثقافي العربي، سلوى السنيورة بعاصيري ووجوه ثقافية وشبابية، وحشد من المهتمّين. استطاعت الندوة أن تُلقي الضوء على تحديث الحرف العربي، وخلقه جسراً بين الأصالة والحداثة تماماً كما تخلق القراءة الرقمية جسراً بين المعرفة التقليدية والتكنولوجيا، مؤكدةً أنّ الابتكار لا يلغي التراث بل يوسّع حدوده.
افتتح بزون الجلسة باستعراض تحوّلات الكتابة والقراءة عبر التاريخ، فانتقل بالحضور من الكتابة المسمارية قبل نحو 3200 عام ق.م. – حين كانت مهارة القراءة والكتابة حكراً على الصفوة من كهنة وقضاة وفلاسفة – إلى لحظة الطباعة على يد غوتنبرغ في القرن الخامس عشر التي «قرّبت المعرفة من الجميع».
تحدّث عن «متعة الورق» وعلاقة القارئ بالكتاب الورقي الذي يمنح صاحبه بُعداً حسّياً – رائحة الورق وملمسه – ويُرسّخ ارتباطاً عاطفياً بالكتب بوصفها مستندات للهوية والملكية والشهادة العلميّة. ثمّ تطرّق إلى بروز القراءة الرقمية مع الحاسوب والألواح الذكية التي أعادت صياغة العلاقة بين الكاتب والقارئ، فجعلت النص إلكترونيّاً سهل التداول، وإن بات أداةً مُيسَّرة لنشر الأيديولوجيا في كنف سلطات متنوّعة.
وتوقّف بزون عند «جدل القديم والجديد» الذي رافق كل ابتكار، مذكّراً بأنّ معارضي الطباعة حذّروا أوّلاً من ضياع الأصالة، وبأنّ مناهضي القراءة الرقمية اليوم يثيرون المخاوف نفسها حول خصوصية المستخدم، وتشتّت الانتباه، وإجهاد العيون، وفقدان «حميمية» الورق. وتحت هذا العنوان شبّه الصراع بين الورق والشاشة بجميع التحوّلات التقنية السابقة، مؤكّداً أنّ «كل ابتكار يثير مقاومة ثم يفرض واقعاً جديداً، فيما يظل جوهر القراءة وبناء المعرفة قيمة إنسانية ثابتة». واعترف بمزايا القراءة الرقمية حتى لدى الرافضين لها: سهولة الوصول، وانخفاض الكلفة، والإمكان التفاعلي مع المحتوى.
حوا
محور الندوة الأساس كان تجربة كميل حوّا، الكاتب ومصمّم الحروف الذي مزج الخط العربي التقليدي بالفنون الغرافيكية المعاصرة، ساعياً إلى إعادة تشكيل الحرف خارج «قوالب» الخطوط الموروثة. كشف حوّا عن فلسفة تصميم لا تكتفي بزخرفة الحرف، بل «تستنطق روح الكلمة» وتجعل شكلها يُعبّر عن معناها في الفضاء الحضري، من لافتات وواجهات وشعارات. استعرض بزون أمثلة تطبيقية لأعمال حوّا، مثل تصميم كلمة «بيروت» كمنحوتة حضرية، وشعارات مدن سعودية كجدّة، والمجسّم الذي حوّل شعار الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) إلى أيقونة ثلاثية الأبعاد، إضافةً إلى جوائز حصدها المصمّم في نيويورك.
وفي مداخلته، عبّر كميل حوّا عن سروره بالحضور الشبابي، لكنّه رسم مشهداً «يوحي باحتمال هجرة القراءة شبه الكاملة»، محذّراً من مؤشّرات واضحة إلى هذا التراجع. استعاد مقالاً كتبه قبل سنوات حول تردّي قراءة الصحف ضمن انتقال الجمهور من الصحافة الورقية إلى المنصّات الرقمية تحت عنوان «لا تتركوا الجريدة تسقط من يدي». شبّه الواقع ببحيرة تجفّ، مؤكّداً أنّ «الضحية الأولى كانت الجريدة لضمور القراءة». أرجع الظاهرة إلى بدايات انتشار الحاسوب، متذكّراً عام 2000 «مرحلة الزخم» التي تزايد فيها العزوف عن القراءة العميقة، ثمّ رأى أنّ فرح الجيل الجديد بمواكبة العصر أسهم في الابتعاد عن الورق.
وأوضح حوّا أنّ علاقة القارئ بالجريدة وتقليب صفحاتها «تجربة متكاملة تترك أثراً» ضمن هيكل القراءة العام، مشدّداً على أنّ «الاستمتاع بالقراءة عملية يكتسب الإنسان عبرها ثراء روحياً وفكرياً». وسأل: «هل تمنح قراءة النص على الشاشة القارئ المتعة نفسها التي يوفّرها الكتاب؟» ليجيب بالنفي، مستنداً إلى دراسات تؤكّد تَفَوّق القراءة على الورق لجهة العمق والاستيعاب. واعتبر أنّ «الهجوم الكاسح للسوشيال ميديا عادةٌ مُهلكة تُشتّت الذهن» وتُفقد الناس القدرة على القراءة المطوّلة، حتى طلاب الجامعات «فقدوا صبرهم على النصوص الطويلة». عرض إحصاءات أُجريت في جامعة كولومبيا تؤكّد الظاهرة، مشيداً بما تمنحه قراءة كتاب كامل من «إنسانية وروحية هائلة».
وتوقّف عند المشهد المتغيّر في البيوت حيث «بدأت المكتبات المنزلية تتراجع، وأحياناً تُلقى الكتب خارج المنازل»، داعياً إلى «قرع جرس الإنذار» أمام هذا التقهقر. ورغم إقراره بصعوبة العودة إلى الوراء، أبقى شعلة الأمل حيّة بعودة الجريدة والمجلّة، إلا أنّه حذّر في المقابل من خطر السوشيال ميديا على القراءة برمّتها، ورقية كانت أم رقمية. وختم باستشهادات من الأديب نجيب محفوظ وآخرين عن الكتاب ودوره في بناء الوعي.
هكذا، رسمت الندوة مساراً متوازناً بين الدفاع عن أصالة الورق والانفتاح على أفق الرقمي، مؤكّدةً أنّ تحديث الحرف العربي ومسارات القراءة الجديدة ليسا خصمين للتراث، بل رافدين لامتداده إلى المستقبل
إضافة مرتَّبة ومُنقَّحة إلى تغطية الندوة
في ختام المناقشات، أعربت رئيسة النادي الثقافي العربي سلوى السنيورة بعاصيري عن تقديرها «لأهمية العرض الذي دقّ جرس الإنذار محذِّراً من احتمال عالمٍ بلا قراءة». وردّ كميل حوّا مؤكِّداً ضرورة «الاعتراف بأهمية الدمج بين الورقي والرقمي»، مشيراً إلى تميّز كل وسيلة لناحية سهولة الوصول، ومضيفاً: «نحن جيلٌ ورقميٌّ في آن، ومن هنا وُلِدَ هذا الشعار».
وقد تفاعل الحضور الشابّ مع موضوع الندوة التي امتدّت زهاء ساعةٍ ونصف الساعة، مُثرياً النقاش بأسئلة وتعليقات عكست اهتماماً حقيقياً بمستقبل القراءة والحرف العربي في العصر الرقمي
[email protected]