أضرار فادحة في أوتيل “بالميرا” وتخوف من تداعيات الغارات المعادية على أطراف قلعة بعلبك

قلعة بعلبك الأثرية المصنفة من قبل منظمة “اليونيسكو” ضمن لائحة التراث العالمي والصامدة في وجه الكوارث الطبيعية والحروب منذ آلاف السنين، إذ أن بعض معالمها تعود الى العهد الفينيقي، وان كانت معابد “جوبيتر” و”باخوس” و”فينوس” التي شُيدت في العهد الروماني هي الأشهر. وتضم بين جنباتها مؤشرات للحقبة المسيحية بعد السماح لمعتنقيها بحريّة العبادة، ومن معالمها المذبح وشارات الصليب في جزء من هيكل “جوبيتر”، إضافة إلى ما ألحق بها بعد الفتح العربي الإسلامي، ومن دلالاته بقايا المسجد والمحراب، والبرج المملوكي، وبعض أقسام سور القلعة التي صارت آنذاك حامية للجند. هذا الموقع العالمي امتدت إلى جنباته في جنح الظلام يد الغدر الإسرائيلي لمرات عدة، بداية عند قصف وسط المدينة التجاري على بعد أقل من 300 متر من مدخل القلعة، ومن ثم باستهداف أطراف ثكنه “غورو” الملاصقة لحرم القلعة، عند إحدى بوابات المدينة الرومانية القديمة، والأخيرة مساء يوم الأربعاء في السادس من تشرين الثاني 2024، عندما شن الطيران المعادي غارة على موقف سيارات زوار القلعة، بجوار “بستان الخان” الأثري وعلى بعد عشرات الامتار من معابد القلعة، فدمر مبنى “المنشية” الذي شيِّد قبل حوالي 100 سنة خلت، ولحقت الاضرار الفادحة على قطر اكثر من 100 متر بالمكان المستهدف.

وقام مسؤول قسم الترميم للمواقع الأثرية في لبنان في المديرية العامة للآثار الدكتور المهندس خالد الرفاعي، بجولة ميدانية على مكان الغارة، وقال في حديث ل”الوكالة الوطنية للإعلام” أن “الغارة دمرت مبنى المنشية التاريخي الذي يعود بناؤه الى عام 1928، وتولينا نقل اللوحة التي تؤرخ سنة بنائه، والحجارة المزخرفة والمنقوشة إلى مستودع داخل القلعة لحفظها، على ان تعاد إلى مالك المبنى من آل الخليل بعد ان تضع الحرب أوزارها”.

وأكد بأن “الأضرار كبيرة جدا في العديد من المباني التراثية المحيطة، ومنها أوتيل بالميرا، ودير وكنيسة سيدة المعونات المارونية، كنيسة الروم الأورثوذكس، كنيسة القديستين بربارة وتقلا، مطرانية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك، وسلسلة المباني التابعة لها التي دمر فيها القرميد والسقف البغدادي تحته، بالإضافة إلى عشرات المحال التجارية والمنشآت الطبية والعلاجية والسياحية، والأبنية السكنية المجاورة.

ورأى الرفاعي أنه “لا بد من تغطية مؤقتة للقرميد بقماش خاص مغلف بالنايلون لمنع تسرب مياه الأمطار إلى داخل المباني، وللحؤول دون إلحاق المزيد من التصدّع فيها”.

وردا على سؤال حول مدى الضرر اللاحق بقلعة بعلبك، قال المهندس الرفاعي: “لا يوجد أي أضرار ظاهرة، ولكن الخوف الكبير من الإرتجاجات وقوة العصف التي تشكل خطراً على أرضية المعابد، إذ ادت الغارة إلى اهتزازات أرضية قوية، نأمل أن لا تؤدي إلى مشاكل إنشائية، وهذا الأمر ستحسمه بالطبع اللجنة الفنية والتقنية المختصة”.

اوتيل “بالميرا”

ومن أهم المعالم التاريخية التي أصيبت بأضرار فادحة، أوتيل “بلميرا”، جار القلعة وأنيسها، والشاهد على حقبات تاريخية وأحداث مصيرية غيرت جغرافية لبنان ونظامه السياسي وتوازناته، منذ الحقبة العثمانية، مرورا بالحربين العالميتين الأولى والثانية، وفترة الإنتداب الفرنسي، وما تخللها من أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية وتقلّب موقع لبنان الجيوسياسي بين محاور وتحالفات متصارعة، وصولا إلى مرحلة الإستقلال و محطاتها، وأبرزها اتفاق الطائف وولادة الجمهورية اللبنانية الثانية، ومن أبرز صنَّاع تلك المرحلة رجل الدولة وعرَّاب الطائف، وحافظ وثائقه التي كان خير مؤتمن عليها، فلم يبح بأسرار مداولاتها، رئيس مجلس النواب السابق السيد حسين الحسيني، الذي كانت قاعات وأروقة وغرف أوتيل بلميرا المقابل لقلعة بعلبك، والمتآخي معها، محور لقاءاته وجلساته وحواراته وإطلالاته الصحافية، المتعالية والمنزهة عن كل زواريب ومتاهات الطائفية وتداعياتها المقيتة.

وأوتيل “بالميرا” الذي نحن بصدد الإضاءة عليه، والذي يعد بحق أحد أبرز مواقع ذاكرة البعلبكيين المبنية، التي لامست البعدين الإقليمي والعالمي، هو أشبه بلوحة تشكيلية خطّت ألوانها وحكاياها أيادٍ ماهرة، بدءًا من هندسة البنيان على يد المهندس اليوناني ميمكاليس باركلي الذي شيَّد الفندق قبل أكثر من 150 سنة، بلمسات تحاكي الآثار والتراث في الشكل والمضمون والمعروضات، سواء في الباحة الخارجية أو من الداخل، ولعل أشهرها التمثال النصفي لزنوبيا ملكة تدمر الذي يزين القاعة الرئيسية، وزاد من رونقه المشهدية المطلة على أجمل وأروع وأعظم المواقع الأثرية في العالم أجمع.

ومع العقد الثاني من القرن العشرين انتقلت ملكية الفندق إلى خبير الآثار اللبناني ابن أسرة بعلبكية عريقة، ميخائيل ألوف، فوضع لمساته على البناء الذي بات يتألف من طبقتين، ويضم 27 غرفة، وأصبح مقصدا لزوار مدينة الشمس وآثارها.

وانتقلت ملكية الأوتيل عام 1985 إلى “شركة بعلبك للإنماء السياحي” ورئيس مجلس إدارتها علي حسين الحسيني، الذي أضاف ملحقا للفندق يتألف من قاعة وحديقة وخمس غرف، محافظا على الطابع الأثري مع لمسات تحاكي الحداثة في الخدمات، ووفِّقَت المديرة التنفيذية السيدة ريما فواز الحسيني في إضفاء السمة الثقافية والفنية على المكان، سواء من خلال استضافة المعارض الفنية للصور والرسم والنحت، والعروض السينمائية، واللقاءات الحوارية القانونية والحقوقية والسياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، والأنشطة الشبابية والأدبية، والتي توِّجت بالشراكة مع معهد “سرفانتس” الإسباني، وإصدارات الكتب والدواوين الشعرية المترجمة من العربية إلى الإسبانية وبالعكس، وكانت باكورتها للشاعر البعلبكي الكبير طلال حيدر.

علما بأن قاعات الأوتيل وغرفه تزينها لوحات تشكيلية لفنانين مشهورين منهم أمين الباشا، جان كوكتو، وعمر الأنسي.

ونذكر من عمالقة الفولكلور اللبناني الذين استضافهم أوتيل بلميرا: سفيرتنا إلى النجوم السيدة فيروز التي اعتادت على حجز الغرفة التي تحمل الرقم 26 لإقامتها خلال الليالي اللبنانية في مهرجانات بعلبك الدولية، لتميزها بالإطلالة على معبدي باخوس وجوبيتير، قبل أن تنتقل إلى غرفة في المبنى المستحدث وُسِمت باسمها. كما استضاف الفندق وديع الصافي، شحرورة الوادي صباح، نصري شمس الدين، الرحابنة، مارسيل خليفة، وجورج خباز. ومن الفنانين العرب والأجانب: أم كلثوم، فريد الأطرش، دريد لحام، نينا سيمون، فيتزجيرلد، أرغون، وغيرهم.

ولعل السجل الذهبي للأوتيل الذي دوَّن في متنه كبار الزوار انطباعاتهم ومشاعرهم، هو من المراجع التي يُعتدّ بها، كيف لا؟! ومن زواره قادة كبار من أمثال الجنرال غورو عام 1920 الذي خطَّ عبارته الشهيرة على إحدى صفحات السجل: “لقد قمنا بضم البقاع إلى لبنان”، في إشارة إلى إعلانه دولة لبنان الكبير، وبات فيه أيضاً الأمبراطور الألماني وليام الثاني عام 1889 الذي كان المبادر لإطلاق حقبة الكشف عن خبايا معابد القلعة من قبل بعثات أثرية متخصصة.

أكثر من 100 نائب ووزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال القاضي محمد وسام المرتضى، ناشدوا منظمة “اليونيسكو” حماية المواقع الأثرية المصنفة على لائحة التراث العالمي، وكذلك المحميّات الطبيعيّة، ولكن هل يرتدع عن العدوان من لا يأبه لكل القرارات والمواثيق والمعاهدات الدولية؟!

 

تحقيق محمد أبو إسبر – الوكالة الوطنية للاعلام 

عدسة حسام شبارو 

 

 

 

لمشاركة الرابط: