معرض لرائدَي الفن في لبنان: مصطفى فرّوخ وعمر الأنسي في غاليري artscoops

بلا استئذان تدخل الأعمال المعروضة في غاليري artscoops في بيروت، إلى القلوب، وهي لرائدين من رواد الانطباعية في لبنان، مصطفى فرّوخ (1901- 1957) وعمر الأنسي (1901- 1969)، في استذكار للدور التأسيسيّ الذي لعبه هذان الفنانان في التمهيد لتذوق الفن الحديث.
والمقصود هنا الفن بوصفه طبيعة وهواء وماء وجبالاً وشواطئ بحار وعادات وتقاليد وحياة يومية في القرى والمدن والأرياف.
انّه الفن الذي يجسّد الجمال بعيون جيلٍ رفض الانصياع للرسم داخل المحترفات، وراح يفتش عن مفاتن الطبيعة وجرأة الألوان وحرارة ضوء الشمس وطراوة الظلال وجريان الأنهار في طريقة رسم المناظر في الهواء الطلق على طريقة الانطباعيين الفرنسيين.
نسأل لماذا تأتي هذه الاستعادة في هذه الأوقات، فلا نجد جواباً غير بواعث الحنين والاشتياق لرؤية أعمال الكبار، التي لا يمكن جمعها في مكان واحد إلاّ بصعوبة بالغة، كونها ممتلكات خاصة، لا يجمعها متحف وطني للفن الحديث.
التعلّق العاطفي بهذه الاعمال قد حوّلها الى أيقونات من ذاكرة الزمن الجميل. والخطوة التي قامت بها الغاليري من خلال تنظيم هذا المعرض (الذي يستمر لغاية 9 كانون الثاني/ يناير 2024) الذي جُمع من مقتنيات 6 أصحاب مجموعات خاصّة، هو لجذب المهتمين الى اكتشاف جماليات طبيعة لبنان بمدنه وقراه، في حلّته القديمة التي تعود الى ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، من خلال تتبّع مسار حياة وأعمال كلٍ من مصطفى فرّوخ وعمر الأنسي. وقد ساهم حضور كلٍ من مي الأنسي وهاني فرّوخ (الحارسان الأمينان على تراث الفنانَين) في إضفاء المزيد من المعلومات وتوضيح بعض التفاصيل من المقترب العائليّ الحميم.


رفيقا الدرب
52 لوحة (زيتيات ومائيات) وتخطيطٍ ورسم سريع، بعضها يُعرض للمرّة الأولى، إذ لفرط حرص أصحاب المجموعات على حماية مقتنياتهم من التزوير والتلاعب، يتمّ إخفاء تحفات الفن مهما كانت صغيرة أو كبيرة. من بين كشوفات المعرض الكثير من التخطيطات والرسوم التمهيدية، ولوحتان مائيتان لشخص واحد، يحملان توقيع عمر الأنسي، وهما للحارس الشخصي للملك عبد الله (المملكة الأردنية الهاشمية). ويحيلنا عمل آخر إلى أسلوب مصطفى فرّوخ في تصوير الموضوع الاستشراقي.
ثمة قواسم مشتركة عديدة بين هذين الفنانين، كلاهما من مواليد بيروت العام 1901، كلاهما عرفا اليتم المبكّر بفقدان الأب، كما انّهما يتميّزان بوفرة الإنتاج وغزارته، وفي رحلة حياة كلٍ منهما محطة مضيئة عرفها فرّوخ بين أعطاف التراث العربي الإسلامي في إسبانيا، كما عرفها الأنسي في اكتشافه للصحراء والحياة العربية وسحر البداوة والترحال في المملكة الأردنية الهاشمية.
ارتبطت مرحلة الانتداب الفرنسي على لبنان (1920- 1943) بصعود الانطباعية في الفن اللبناني، لاسيما بعد عودة الفنانين من الدراسة في العواصم الأوروبية (على وجه الخصوص باريس)، فجاءت كتفسير عملاني ميداني لمفهوم دولة “لبنان الكبير”، لبنان ككيان مستقلّ بحدوده الجغرافية وتراثه وحضارته، بعدما كان مجرد ولايات صغيرة في عهد المتصرفية العثمانية.
كان ذلك من أبرز العوامل التي ساعدت في انبثاق الشعور الوطني بالانتماء، مع أهمية اكتشاف الطبيعة الجغرافية للبنان الكبير، في اتجاه لم يقتصر على الفن وحده بل طاول الشعر والأدب عموماً، وكان الطراز المديني للبنان وقتئذٍ ذا حلّة شرقية انسحبت على بعض المظاهر الاجتماعية التي ارتدَت احياناً طابعاً فولكلورياً وقروياً بامتياز، بالرغم من الانفتاح الظاهر على الحياة الاجتماعية الفرنسية.
فالموضوعات التي حاكت ريشة كل من فرّوخ والأنسي، وجدت مداها الأوسع في رحابة المنظر الطبيعي، فضلاً عن تيمات اخرى، كرسم الموضوعات التاريخية والمواقع الأثرية والجغرافية وتصوير ملامح من العادات والتقاليد اللبنانية، فضلاً عن فن البورتريه ورسم وجوه البدويات والطبيعة الصامتة، في حين انطلق فن العري جهاراً (بعد مكوثه في الخفاء) على أوسع نطاق خصوصاً في المعارض والصالونات الرسمية التي كانت تُقام تحت سلطة الانتداب الفرنسي، في مواجهة تزمّت المجتمع اللبناني إزاء هذا النوع من الفن.
وهذه المجاهرة جاءت كردّة فعل على الفضائح التي أُثيرت بعد مقتل الفنان خليل الصليبي الذي اتُهم بالفجور والانحلال الأخلاقي لأنّه رسم زوجته عارية، كذريعة لتبرئة الجناة القتلة من العقاب.


فرّوخ رسام بيروت الأغرّ
“متى أتيح للإنسان أن يحسن قراءة لغة اللون والضوء، تمّت له نعمة تذوق جمال الطبيعة ونعمة لذة الحياة والإعجاب بوطنه”.
هذا القول للفنان مصطفى فرّوخ يختصر أسلوبه الحامل عشق الطبيعة اللبنانية بدفئها وبراءتها وجمالها، وهو من الفنانين القلائل الذين تركوا بصماتهم الظاهرة على عصرهم، سوءاً من خلال ما كتبه من أدب الرحلات والاستذكارات واليوميات، أو ما كتبه في مجال الفن من آراء ومواقف، أو في مجال النقد الاجتماعي، فكان من دعاة تحرّر المرأة وتعليمها كي تأخذ مكانتها في المجتمع، وكانت إنجازاته سبباً من أسباب اليقظة التي مهّدت للحداثة.
مصطفى فرّوخ العروبيّ الهوى واللبناني الانتماء صاحب المواقف الجريئة والمثقف والكاتب، هو من مواليد بيروت (محلة البسطة) تتلمذ على يد الفنان حبيب سرور، ثم سافر عام 1924 إلى روما. وبعد تخرّجه من الأكاديمية الملكية، أقام أول معرض فردي له في بيروت في “الغرين روم” في الجامعة الأميركية (حيث اصبح استاذاً فيها) ثم سعى الى متابعة دراسته في باريس، حيث تمكّن من تحقيق أولى أحلامه، هو أن يعرض في الصالون الدولي الشهير، الذي كان يُقام في “الغراند باليه” عام 1930.
أما الحلم الثاني فهو السفر إلى اسبانيا، في رحلة أرّخها كاملة في كتابه “رحلة الى بلاد المجد المفقود”. وكانت الأندلس مفترقا كبيراً في حياته، تجلّت في روائع أعماله التي رسمها بالألوان المائية.
فكتب بالريشة والقلم عن كل ما شاهده من آثار الفنون الإسلامية التي وصفها بأنّها الفردوس على الأرض وهبة السماء. عاد الى بيروت العام 1932 ليفتتح محترفاً خاصاً له، وليقيم فيها المعارض التي استقطبت أقلام الكتّاب والصحافيين الفرنسيين في لبنان.
آمن فرّوخ بلبنان موطناً للجمال، فهام به حباً، رسمه ساحلاً وجبلاً، من المدن الى القرى النائية والأرياف، حتى أضحت مناظره التي كان يؤرخّها بمواقعها وأسمائها سجلاً حافلاً عن لبنان، موطن “الشعر اللوني للأمكنة الرضية” على حدّ تعبيره. لذا راح يكشف عن الوجه المدينيّ لبيروت كعاصمة متوسطية وادعة، ظلّت تحمل رغم عمرانها، طابعها الريفي الجميل، فقد رسمها كحديقة بحنين العاشق لبيوتها ذات الحجارة الرملية والعقود الحانية والشرفات الفسيحة وهي مكسوة بقرميد مرسيليا الأحمر، من مواقع تطلّ على شاطئ البحر وخلفها يربض جبل صنين. رسم فرّوخ الكثير من الموضوعات وبورتريهات الوجوه، لاسيما وجوه نساء من عائلات بيروتية عريقة، من بين هذه الأعمال لوحة “السفور” التي تجسّد سيدة مكشوفة الوجه تحمل مظلة حمراء.
عُرف مصطفى فرّوخ ايضاً كرسام للتاريخ الحضاري العربي، تُعتبر أشهر أعماله “معاوية يمخر البحر”، وهي لوحة بحجم جداري شارك بها في معرض نيويورك الدولي العام 1939. فضلاً عن 4 كتب ومذكرات غير منشورة، ترك فرّوخ مئات الرسوم التي تؤرّخ لرحلة حياته منذ مطلع شبابه حتى مماته (بمرض عضال في 16 شباط/ فبراير عام 1957).

الأنسي شاعر اللون والنور
أسوة بفرّوخ نذَر عمر الأنسي حياته للفن (من مواليد تلة الخياط بيروت العام 1901)، حتى لُقِّب بشاعر اللون والنور، وهو أحد رموز الفن في لبنان ورائد من روّاد الانطباعية اللبنانية، آمن بالجمال وعاش في كنف الطبيعة يتغنّى بألوانها وكائناتها وموجوداتها وسحرها، حتى أصبحت بمثابة لغة تترجم مشاعر القلب. أدخل ذوقه الخاص في التصوير بالألوان المائية، ونقل تلك الذائقة الى المجتمع اللبناني، فكرّس الإعتراف باللوحة المائية كلوحة فنية متكاملة.
رَسمَ له القَدَر مساره منذ أن كان طالباً في السنة الأولى للطب على مقاعد الدراسة في الجامعة الأميركية، ليصبح تلميذاً للفن في محترف الفنان خليل الصليبي عام 1920، الذي أعجِب بموهبته الفذّة، في نقل الواقع ورسم الوجوه.
لعلّ المفترق الأول في حياة الأنسي هو سفره في العام 1922 الى الأردن لكي يعمل مدرِّساً للغة العربية والإنكليزية لدى الأسرة الهاشمية. هذا المفترق الذي جعله رسام الصحراء الوحيد في جيله، وهي صفة لم يكتسبها اي فنان عربي سواه في تلك الحقبة.
هناك عاش تجربة الإستشراق على حقيقتها، وعرف سحر البداوة مع رحلة قوافل الجِمال بين رمال الصحراء والواحات المحاطة بأشجار النخيل. استوقفت ريشته هيئات الوجوه العربية، ووجوه الفرسان بالكوفية والعقال. وللأنسي من هذه المرحلة لوحة ذاتية رسمها لوجهِهِ باللّباس العربيّ معتمراً العمامة وقد طغى عليها اللون الأحمر والترابي.
شكّلت المرحلة الأردنية نواة معرضه الفردي الأول في القدس عام 1927، ما ساعده في الفوز بمنحة من وزارة المعارف العامة في بيروت في العام نفسه للدراسة في أكاديمية جوليان في باريس (1927- 1930) حيث صقل تجاربه وعمّق معرفته بالفن، خصوصاً بعدما إطلع عن قرب على أعمال فناني الانطباعية الفرنسية، ما عزّز لديه البداهة اللونية والحدس البصري في التقاط الهنيهات العابرة في رسم الطبيعة.
الواقع، أنّ موهبة الأنسي لم تتفجّر ينابيعها إلاّ بعد عودته الى بيروت عام 1930، حين أخذ يسجّل انطباعاته البصرية المباشرة بالألوان الزيتية والمائية، للمناظر التي رسمها في منطقة رأس بيروت، وكذلك للموانئ والمرافئ والسهول برؤية شاعرية. كما سجّلت هذه المرحلة ظهور بعض اللوحات لمداخل البيوت البيروتية، لاسيما منطقة “تلة الخيّاط” حيث كان يقيم في بيت من الطراز العربي المتوّج بالقرميد، كان يعتني بحديقته التي رسمها في مختلف المواسم، حيث كان يرتع فيها الغزالَان أسمى وحيرام.
أحدثت صداقة الأنسي للفنان الفرنسي جورج سير G ،Cyr تحولّاً على المستوى الثقافي وعلى مستوى المعارض التي كانت تُقام في بيروت تحت سلطة الانتداب.
رسم الأنسي الحياة القروية بحيوية لافتة، من اشهر لوحاته “قطاف الزيتون”، كما رسم الطبيعة الخلوية بعزلتها وبراءتها. جدّد الأنسي موضوع الطبيعة الصامتة وتميّز برسم البدويات والعاريات، والأشجار المعمِّرة ومجاري الأنهار والينابيع. من أشهر تيماته التي أطلقها “درزيات على العين”، وموضوع الغزلان وصخور “ميروبا” ذلك المصيف الذي كان ملاذاً للأنسي حين كان يعاني من وطأة المرض الذي اشتد عليه حتى فارق الحياة عام 1969، وبرحيله رحلت معه الحديقة والبيت وذاكرة بيروت الحلوة.
إن سألتم عن بيروت وما كان عليه لبنان من طيب المناخ وحلاوة الطبيعة وجمال المناظر، فتصفحوا أعمال مصطفى فرّوخ وعمر الأنسي، التي أضحت مرجعاً بصرياً لوطن الحب والسلام والجمال المفقود.

المصدر: بيروت – النهار العربي
مهى سلطان

لمشاركة الرابط: