ثلاثون عاماً مرّت على تأسيس صرح ثقافي وفني يحمل اسم السيدة الرائدة “جانين ربيز”، التي حملت من بعدها شعلة الأمانة ابنتها ندين بكداش، منذ أصرّت على ألاّ يغيب اسم والدتها عن الغاليري الذي ورثته عنها. وسرعان ما أخذته الابنة الى الاحتمالات الأبعد، والى المدى الأوسع محلياً وعربياً.
احتفاءً بهذه المناسبة التأسيسية أقامت ندين بكداش، معرضاً استذكارياً حمل اسم “ثلاثون عاماً من الألوان”، وضمّ مجموعة كبيرة من الأعمال للفنانين المتعاونين مع الغاليري، سواءً في العروض العابرة أو الدائمة، من مختلف الأجيال والمدارس الفنية والاتجاهات القائمة في الفنون البصرية.
وذلك ضمن شروط محدّدة متصلة بالرقم “ثلاثين” ليس كشعار احتفالي فحسب، بل كمقياس لحجم العمل الفني (30 سم عرض)، المُقدّم للمعرض، والذي يفترض أن يكون صغيراً ورمزياً ومتلائماً مع المناسبة.
فالمعرض ليس سوى وقفة رمزية استذكارية يغيب عنها الفنانون المحدثون الكبار (باستثناء لوحة واحدة للفنانة ايفيت أشقر)، ويساهم فيها الفنانون المعاصرون على اعتبارهم جيل الفن الراهن وجيل المستقبل.
لم يكن هيناً على السيدة التي أسست بنجاح باهر “دار الفن والأدب” أن تستسلم للواقع الصعب، هي التي ظلّت تبادر وتقيم المعارض وتخترع المناسبات التي من شأنها أن تجمع الشمل الفني، في الظروف القاهرة للحرب، متستقطبةً اهتمام المواهب الجديدة.
هكذا جاءت فكرة إنشاء غاليري في بيتها (منذ العام 1979 حتى رحيلها)، خياراً لا بدّ منه في زمن القتل والقصف والعنف، فكانت جانين مثل بؤرة الضوء في عتمة ذلك الزمن. ولم يكن هيناً ايضاً على ندين بكداش أن تقيم في تلك الذاكرة الهائلة من العلاقة مع الثقافة والمثقفين، وتلك الهالة المضيئة التي تركتها والدتها بعد رحيلها، لكي تبدأ بمشروعها الخاص في تحويل ذلك البيت العصري الكائن في منطقة الروشة، المطل على البحر (الطابق الثاني من بناية مجدلاني، التي تحمل توقيع المهندس نديم مجدلاني- والد ندين)، حيث كانت تقيم جانين، موئلاً للفن بدءاً من العام 1993.
وما كان يُحكى عن أسرار جانين، التي فتنت جيلها بتحرّرها وتمرّدها وقوة مواجهتها للأزمات وانغماسها في الثقافة، يُحكى ايضاً عن شخصية ندين بكداش العملانية، بصلابتها وشفافيتها وجرأتها في إدارة شؤون الغاليري التي أضحت معلماً فنياً بامتياز، جيلاً بعد جيل.
ندين بكداش في صورة جامعة مع الفنانين المشاركين
على جدار الذاكرة
أحداثٌ كثيرة ووجوهٌ فنية لا حصر لها مرّت خلال ثلاثين عاماً. فنانون من زمن الكبار من جيل الحداثة، مرّوا في ذاكرة الغاليري، وتركوا صورهم وابتساماتهم وبصماتهم العالقة على جدران الزمن. قلّما تحدثت ندين بكداش عمّا كابدته من صعوبات في اجتذاب الأسماء الكبيرة، إلى مائدة احلامها، لاسيما الاصدقاء القدامى لوالدتها ليس لأنّهم أصدقاء بل لأنّهم مُلهِمون وأساسيون في مشهدية الفن اللبناني، مِن هؤلاء المقرّبين كان شفيق عبود الذي اعترف بفضلها في عودته مجدداً إلى جذوره بعد انقطاع طويل بسبب الحرب، وكانت المعارض التي تنظّمها له، حجة لكي يعود ويمشي في شوارع بيروت ويزور قريته في المحيدثة (قضاء بكفيا) ويتفقّد أهلها ويحنّ من جديد إلى ألوان الأرض والطبيعة المُلهمة الأولى، ويكتشف متتبعين جدداً، وان يستعيد ذاكرته المفقودة.
ومن تلك النافذة التي فتحتها بكداش، جاءتنا أعمال عبود، بتجريدها اللوني الأخّاذ، التي لوّنت مواسم بيروت بجنائن من عصف ألوان إقامته في باريس، ذكريات ومشاعر ورؤى، تجلّت على نحو لا يُنسى في لوحة تحكي عن ثوب عرس ابيض ملطخ بألوان العشق يطوف في فضاء الحديقة.
لم يمض إلاّ وقت قليل على إنشاء الغاليري حين نظمّت بكداش معرضاً للفنان الراحل سعيد عقل (1994)، رائد التجريد الحروفي والأرابسك الشرقي، وكان بمثابة محاولة لتجميع انتاجه بدءاً من ستينات القرن العشرين حتى مراحله الأخيرة.
ويمرّ في خاطري معرض النحاتة معزّز روضة، وكان الأول الذي كرّمها بعد رحيلها، وأتذكر معرض الصحراء لعارف الريّس الذي جلب الى العيون رمال الصحراء في المملكة العربية السعودية وصخورها الوردية في ساعات الغسق.
وكنا نواظب على إطلالات ايفيت أشقر كل عامين، ومعارض هيكات كالان المدهشة بجديدها الآتي من محترفها في لوس انجلوس، واستفزازات حليم جرداق وتحدّياته في اجتراح الجمال من إلهامات الفن الفقير الآتي من مخلّفات الأشياء المهملة.
وكانت الغاليري تعجّ بأهل الفن والأدب والصحافيين مع عجقة المواعيد، احتفالاً بقدوم ايتل عدنان وسيمون فتّال، حين تكون المناسبة معرضاً للأعمال الجديدة التي رسمتها عدنان، سواءً في كاليفورنيا مقطوفاً من الشعر وكتيبات عالم المقهى، أو جبل تالمبيس أو من أي مكان آخر في العالم. ولا تغيب عن البال إطلالات معارض لور غريّب، منفردة أو مع ابنها مازن كرباج في تجارب مشتركة، شرّعت الأبواب أمام جرأة التعبير الحرّ وروح النقد والسخرية المغلّفة بحسٍ فكاهي جارح.
الانفتاح العربي والدولي
كانت مرحلة إعادة إعمار بيروت في التسعينات وأوائل العام 2000 مرحلة الرخاء والسلم والاستقرار، تلك التي شهدت انطلاقة غاليري جانين ربيز، على رغبة في بناء الأمل على دعائم استقطاب التجارب العربية والعالمية إلى حاضرة بيروت.
في الذاكرة معرض بيروت- المكان ومشاريع الإعمار برؤية غريتا نوفل، وزيارة مروان الحص صاحب الغاليري التي تحمل اسمه في باريس (12 شارع الجزائر- ايل دو فرانس) الذي استضافته ندين بكداش العام 2005 الى بيروت، كأحد أقطاب المعاصرة والشخصية المركزية في المعرض الدولي للفن المعاصر (الفياك)، لمناسبة إقامة معرض للفنان الأرجنتيني انطونيو سيغي، Antonio Segui (1934- 2022) بعد النجاح الذي أحرزه في معارضه الباريسية التي نظّمها له الحص.
وقد شكّل المعرض حدثاً فنياً في بيروت، لعشاق اسلوبه المرح والخيالي الذي يصف الحياة المدينية لرجل وحيد بفانتازيا معطف الغربة الطويل الذي يرتديه معتمراً قبعته وحاملاً مظلته، مسرعاً يعتلي بخطى واسعة سطوح مدينة باريس، (لتعود وتستضيفه الغاليري مرة ثانية العام 2014).
من قبله معرض “جنيّات لار” الذي نظّمته ندين بكداش العام 2001، للثنائي شاديا ورجاء عالم، في عصر الانطلاقة الجديدة للفن في المملكة العربية السعودية، مع رعاية مؤسسة المنصورية، لعمل الثنائي الرسامة شاديا وشقيقتها الروائية رجاء، في رؤية متمرّدة على الواقع تقتحم أسوار الحكايات وسردياتها، فتسافر من البيئة المحيطة لتصل الى عالم المتخيل بلا أجنحة.
كان افتتاح المعرض بمثابة احتفال رسمي- سياسي على مستوى محليَ وعربي رفيع، لم تشهده بيروت من قبل. في خضم ذلك الانفتاح العربي نظّمت ندين ايضاً معرض الفنان التونسي عبد الرزاق الساحلي (اوائل العام 2001)، بعنوان “إشارات وطقوس”، أضاف إلى مفاهيم التجريد الارتجالي شيئاً من عالم سيميائي زخرفي حار من عمق التراث.
لم تقتصر معارض غاليري جانين ربيز على المحدثين الكبار، بل تعدّتها الى جيل ما بعد الحداثة والمعاصرة، من خلال مجموعة مختارة من الفنانين، (أبرزهم جميل ملاعب ومحمد الرواس وشوقي شمعون وزاد ملتقى وشارل خوري وإيلي أبو رجيلي، وراشد بحصلي… وسواهم).
محطات
بلا شك، ثمة محطات ولمعانات مضيئة، في ذاكرة الغاليري، منها إقدام ندين بكداش على استضافة معرض “تحية الى عصفور حرّ” للفنان فيصل سلطان، الذي شكّل منبراً استقطابياً للقاء بين النص التشكيلي والنص الشعري (1998)، عبر مجموعة من تجارب فن الغرافيك (ليتوغرافي وسيريغرافي)، التي نفذّها سلطان في باريس من وحي قصائد أنسي الحاج.
إلى ذلك، قدّمت غاليري جانين ربيز وجوهاً شابة من طلائع التجارب الآتية من حقول متنوعة في خطابها البصري، ومقارباتها المعاصرة، بدءاً من المقامات الروحية لتأمّلات الطبيعة في أعمال هنيبعل سروجي، الى فن التبصيم والأثر في قماشات بسام جعيتاني المعتمدة على ألوان الصدأ، وتأملات الغربة والسفر في اعمال جوزف شحفة، وأعمال جوزف حرب، المنبثقة من عالم الوقت وكينونة المكان ووحدة الإنسان. وتطول قافلة الفنانين الشباب، لاسيما الفنانات اللواتي أصبحن نجمات الغاليري (أخيراً عايدة سلوم وليلى جبر جريديني وغادة الزغبي).
ندين بكداش التي طوت زمناً بعد زمن (ما قبل وبعد انفجار 4 آب 2020)، تبقى بجدارة السيدة المتربعة على عرش حضورها، في وقت لم يعد فيه مبدأ التنافس أو إثبات الوجود على الساحة الفنية، أو التواجد على المنصّات العربية والدولية أمراً بديهياً، بل الوقوف في وجه الرياح العاتية للأزمات الداخلية والاستقرار الأمني، هي بواعث القلق التي تدفع الى مزيد من التحدّي في القدرة على الاستمرار.
في عيدها الـ30 تصرّ غاليري جانين ربيز “على المثابرة في مسعاها للدفاع عن فنّنا وثقافتنا، والبقاء مساحة مفتوحة لحرّية التعبير، وخصوصاً في ظلّ المآسي التي يعانيها الفلسطينيون واللبنانيون أخيراً”.
كما يواصل الفضاء البيروتي استقبال الزوّار (حتى 30 كانون الأول/ ديسمبر الحالي) للاستمتاع بمعرض “30 عاماً من الألوان”. علماً أنّ الحدث يضمّ أعمالاً أنجزها 32 فناناً هم: ايفيت أشقر، آرا أزاد، داليا بعاصيري، راشد بحصلي، ايلي أبو رجيلي، جوزف شحفة، بيتران شلش، دينا ديوان، بسام جعيتاني، احمد غدّار، منصور الهبر، جوزف حرب، ليلى جبر جريديني، زينه قمر الدين بدران، كريستين كتانة، شارل خوري، سامي الكور، ريما مارون، جميل ملاعب، زاد ملتقى، غريتا نوفل، محمد الرواس، عايده سلوم، فرنسوا سارغولوغو، هنيبعل سروجي، ادليتا ستيفان، فيصل سلطان، لارا تابت، ألفرد طرزي، آلان فاسويان، جان- بيار واتشي، وغادة الزغبي.
النهار العربي
مهى سلطان