غزة بين الفن والمواقف والرُهاب من المُلثّم

غزة فالقٌ زمني ديموغرافي ومكاني وتاريخي بلا شك، هي فالق على جبين العرب، وهي القضية، زمنٌ في أزمنة، ما قبل “طوفان الأقصى” وبعده، مشاهد قتل ومجازر لم يعرفها التاريخ منذ الحرب العالمية الثانية.
هل يجدي استعادة الماضي الفني والشعري والفلسفي والأدبي نفعاً؟ وإذا كانت حرب الإبادة على غزة هي عنف التاريخ بحدّ ذاته فسيخلق هذا التاريخ بالتأكيد أدواته ونجومه وأبطاله وطرائقه في التعبير.
هل تصدّق العين ما ترى؟ هل يمكن وصف ما يحدث من جرائم مروعة ضدّ الإنسانية لم يشهدها العالم من قبل؟ هل بالكلمات أم بالشعر أم بالرسم أم بالتعبير اللوني أم باللقطة الفوتوغرافية ؟ هل بنبش الذاكرة الماضية للفن الفلسطيني حين حمل الفنانون الريشة بدلاً من البندقية، أم بالإنفعال الآنيّ الذي يخرج من فوهة اللون كما تخرج الرصاصة من المسدس؟
هل بشهادات الصحافيين الذين يسقطون شهداء وهم ينقلون آخر الرسائل من أرض الجراح؟ وهل يقوى الخيال على ارتجال أي شيء أقوى من فظاعة الكوابيس التي تتخطّى الإدراك واللامعقول؟
باطلٌ كل شعارات اللجنة الدولية لحقوق الانسان . باطلٌ كل المنظمات الدولية والقوانين التي تنادي بالحرّيات، باطلٌ مجلس الأمن في الأمم المتحدة الذي لا يردع العدوان على براءة الطفولة ، باطلٌ الاتحاد الأوروبي وكل الديموقراطيات حول العالم وباطلٌ كل ما فوق ذلك ودون ذلك.
سقطت كل الأقنعة وانكشف العالم على عوراته وعاهاته وأكاذيبه، كما انقسم الرأي العام العالمي بين مؤيّد ومعارض لحرب الإبادة على غزة (ممثلون سينمائيون ومخرجون واعلاميون ومطربون وشخصيات مؤثِرة…)، بل انقسمت أنظمة الدول حول العالم، ولكن صوت شعوبها ما زال حراً طليقاً يندّد ويثور ويغضب، وهذا ملمح الأمل بإنسانية الإنسان اينما كان، على وجه البسيطة، والى اي دين او لون أو طائفة انتمى.
ليس أدلّ إلى ذلك من التظاهرات المليونية التي خرجت في احتجاجات على الإبادة الجماعية الممنهجة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني بأدوات القتل الإسرائيلية، في مختلف مدن العالم (أقلها هو في العالم العربي)، يُضاف الى ذلك ما يحدث يومياً من مشاهد أدائية Performance من النوع الاعتراضي. فتعقيباً على المشهد البطولي لأطفال غزة الذين كانوا يسجّلون أسماءهم على سواعدهم تحسباً للموت الذي سيحصدهم على غفلة، وحفاظاً على سجلات وجودهم من الاندثار والضياع، نفّذ طلاب جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأميركية، عملاً أدائياً على مرأى وسائل الاعلام، حين أخذوا يتلون أسماء الضحايا والقتلى في غزة والضفة الغربية المحتلة بصوت عالٍ، ويكتبونها على لوائح من الورق فرشوها على مدخل الجامعة وأدراجها وباحاتها، في عمل فني يوثّق الموقف الرافض لقتل الابرياء.
ذلك فضلاً عن العرض البصري الذي قدّمته حافلة متجولة في شوارع نيويورك تعرض مشاهد من قصف غزة، واللافت ما حدث في إسبانيا في مباراة دوري الأبطال (شامبيونز ليغ) بين سوسيداد وبنفيكا، حين قام اللاعبون بارتداء أقنعة بيضاء وملابس بيضاء مثل الكفن ملطخة بالدماء ودخلوا في استعراض مبهر ومفاجئ للجمهور وهم يرفعون العلم الفلسطيني، بين تصفيق من جهة وسخط واعتراض من جهة اخرى، وليس آخرها دعم مغني الراب الأميركي ماركوس مورتن الشهير بـ Redveil (البالغ من العمر 19 عاماً) للقضية الفلسطينية في وجه حرب الإبادة التي تشنّها اسرائيل، وقد اعتلى المسرح وهو يرتدي الكوفية الفلسطينية مستهلاً الحفل بعرض بصري على الشاشة المثبتة خلفه، لأسماء الأطفال الأبرياء الذين سقطوا قتلى ولم يبلغوا الرابعة من العمر، طالباً من الجمهور الدخول الى الموقع الالكتروني Ceasfiretoday لحث ممثليهم في الكونغرس الأميركي على الضغط باتجاه وقف اطلاق النار فوراً، كما طلب ان يهتفوا شعار “فلسطين حرّة”.


لغز الملثم
الكوفية أصبحت تهمة، ارتداؤها تهمة ورسمُها تهمة أكبر وأخطر لأنّها تبث الرعب في القلوب وتدعو الى النفور لأنّها تذكّر باللباس الفلسطيني خصوصاً مقاتلي “حماس”.
لو علِمت دار كريستيز التي أعلنت في المزاد المخصّص لفنون الشرق الأوسط الحديث والمعاصر (بتاريخ 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) عن سحب لوحة “الملثم” للفنان اللبناني أيمن بعلبكي ومعها لوحة ثانية بعنوان “المجهول”، بحجة تلقّيها الكثير من الشكاوى التي من شأنها التأثير على حركة البيع للأعمال الفنية، إنّ هذا الإجراء الذي قامت به، قد أحدث زوبعة كانت لصالح الفنان وساهمت في رواج شهرته أكثر فأكثر لَما فعلت، فقد أخذت اللوحة ترتدي قيمة عاطفية فضلاً عن قيمتها الفنية، وتحقق انتشاراً جماهيرياً لم يعرفه أي عمل فني معاصر من قبل.
لو تعلم دار كريستيز انّه بدل الملثم الواحد يوجد عشر لوحات لملثّمين في السلسلة التي رسمها بعلبكي متوّجة بمنحوتة ضخمة لرأس الملثم. لم يعد خافياً أن تأثير الايديولوجيا السياسية ومن خلفها اللوبي الصهيوني على الفن، برز هذه المرّة بطريقة فاقعة وغير مقنّعة إن لم نقل ساذجة.
وقد اعتبر الفنان أنّ سحب اللوحتين جاء من باب التعدّي على حرّية التعبير والتمييز العرقي بين مجتمع وآخر. وأشار صاحب اللوحة الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، إلى أنّ ممثل دار كريستيز اتصل به وأقنعه هو وعائلته بإدراج العمل في المزاد، لكن “أحد كبار الموظفين في دار المزاد طلب سحب لوحتي الفنان اللبناني”.
يتراوح سعر لوحة الملثم (اكريليك على قماش بقياس 200 سمX 150 سم) ما بين 98 ألف دولار و150 ألف دولار، وهي موقّعة العام 2012. يقول بعلبكي في حديث مع موقع “آرت نت”: “عندما رسمت الملثم الأول، كانت الحرب الأهلية اللبنانية في ذهني”.
أما اللوحة الثانية فقد رسمها بعلبكي بين عامي 2011 و2018 وتصور رجلاً يرتدي قناع غاز مع شريط أحمر حول رأسه يحمل كلمة “ثائرون” باللغة العربية، ويقدّر سعر بيعها بين 15 ألف دولار و22 ألف دولار.
المفارقة أنّ النجاح الأول الذي حصدته لوحة “الملثم”، جاءت في سياق الأعمال التي تصور وجه المقاتل “الفدائي” الملثم الغامض وعالمه السريّ وفكره المتعلق بعقيدة الاستشهاد، كما يبدو في الخلفية التي تعجّ بموتيفات الزهور (على طريقة فن الكيتش kitsch ) كي تشير في رمزيتها إلى مرحلة ما بعد الموت، للدلالة على جنائن الفردوس الموعودة للشهداء.
وقد فُهمت هذه اللوحة بمضمونها النقدي المثير للجدل على أنّها عمل اقتحم المحظورات في كشف النقاب عمّا يسمّيه الغرب بالإسلام السياسي، فإذا بها تتلبس لبوساً آخر في العام 2023، ويتمّ النظر اليها على انّها تمثل الشخصية النموذجية للملثّم الفلسطيني الذي يذكّر بمجاهدي حركة “حماس” في دفاعهم عن أرضهم وكيانهم.
الملاحظ انّه منذ حظر لوحة بعلبكي في المزاد اللندنيّ حتى الآن، بات الإصرار على إظهار صورة الملثم بالكوفية الفلسطينية ينتشر ويتوسع ليتربع الملصقات والصور واللوحات ووسائط التواصل الاجتماعي، فضلاً عن حسابات الأفراد على موقع “فايسبوك”، وخصوصاً وسط جماهير الملاعب الرياضية، كما تحولت الكوفية من رمز للمقاومة الى رمز قهري للتحدّي، كموضة مُستجدة في اللباس والزينة، حتى أصبحت “تراند” في الآونة الأخيرة، وهذا ما حدث مع المطربة سمية بعلبكي (وهي ابنة عم الفنان أيمن بعلبكي) التي ارتدت قناعاً من قماش الكوفية الفلسطينية تضامناً مع أهل غزة.
لعلّ السبب المباشر لاستبعاد لوحة أيمن بعلبكي هو وجه التشابه بين “الملثّم” في اللوحة، ووجه “الرجل الملثّم” الذي أرهب العالم وأصبح ايقونة النضال الفلسطيني ورمز حركة “حماس”.
لقد أثار قائد “كتائب شهداء عز الدين القسام” “أبوعبيدة” منذ أول ظهور علنيّ له على شاشات التلفزة، صدمة لفرط ما حمل خطابه الموجز من وقائع وتهديد ووعد بالانتصار. فقد ظهر كشخصية مؤثرة ومُقنِعة للعدو قبل الحليف، ما جعلها شخصية ملغزة وشعاراً متعدّد الرموز والدلالات، وأبرزها رمز الكوفية باللونين الأحمر والأبيض التي تغطي وجه القائد بالكامل دون عينيه، تَخَفّياً وإجهاراً في آن واحد.
بلا شك إنّ الكيان الإسرائيلي مصاب برهاب شخصية الملثم، وكثيراً ما فشلت أجهزة استخباراته في الكشف عن الهوية الحقيقية لشخصية أبو عبيدة، وتفكيك سيماء هذا الوجه بحلّته العربية السمراء الذي يُرهب بإطلالته جمهور المتابعين من المجتمع الاسرائيلي وسكان المستوطنات على وجه الخصوص.
هذا الرهاب المتطرّف قد طاول منع تداول أي عمل فني يجسّد الكوفية أو خارطة فلسطين (ولو كان على شكل شريحة بطيخ)، لذا يبادر الكثير من الفنانين الى رسم خارطة فلسطين تحدّياً لهذا المنع.


وكان هذا الرهاب قد بدأ (منذ بداية طوفان الأقصى) بالاعتداء على رمز فني فلسطيني، حين اقتلعت جرافات الاحتلال الإسرائيلي “حصان جنين” الشهير، من موقعه الثابت منذ 20 عاماً داخل مخيم جنين، لتنقلَه إلى مكان مجهول، يرجح أنّه معسكر “الجلمة” الاحتلالي القريب.
ويعتبر الفلسطينيون هذا الحصان رسالة فنية لشهداء عملية “السور الواقي” التي حدثت جراء الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين عام 2002، بينما وصفته وسائل إعلام إسرائيلية بـ”الرمز الإرهابي في جنين”. وهو عمل فني عملاق (ارتفاعه 3 م. وطوله 6 م. وعرضه 1 م) صنعه النحات الألماني توماس كليبر Thomas Klipper بمساعدة أطفال المخيم عام 2003، من المخلّفات المعدنية والمركبات والآليات وحديد المنازل المدمّرة.
وُضع الحصان على مشارف المخيم مرفوع الهامة، ووجهه نحو مدينة حيفا التي شُرّد منها ومن قراها معظم أهالي المخيم عام 1948، ليجسّد الإصرار الفلسطيني على العودة، ولإبقاء صورة المأساة حيّة في الذاكرة، وليؤكّد أنّ اللاجئين في هذا المخيم لا يزالون متمسكين بحق العودة إلى أرضهم.
ليست إسرائيل وحدها مصابة بذلك الرهاب، بل طاول القيّمين على الفن في أنحاء أوروبا وأميركا، ظهرت تداعياته بحملات التضييق على الفنون العربية في الغرب، مع تصاعد حملات الكراهية ضدّ الفلسطينيين والعرب. فقبل أيام أجّل متحف بيتسبرغ للفنون، في الولايات المتحدة معرض “الزخرفة الثمينة” عن الفن الإسلامي عبر عشرة قرون، وبرّر المتحف قراره بتضارب في الجدول الزمني، لكن رسائل إلكترونية من موظفي المتحف، حصلت عليها صحيفة “بيتسبرغ تريببيون-ريفيو”، أشارت إلى أنّ للعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة دوراً في هذا القرار.
والغريب ايضاً هو قرار غاليري ليسون اللندنية تعليق استضافة معرض للفنان الصيني أي ويوي (1957) المعروف بدعمه لحرّية التعبير ومناصرة المضطهدين، في أعقاب بوست نشره على مواقع التواصل الاجتماعي حول الحرب الاسرائيلية على غزة، كما تلقّى رسام الكاريكاتور البلجيكي ستيفن ديغريس المعروف بإسم Lectrr تهديدات بالقتل بعد نشره رسوماً كاريكاتورية تُظهر إجرام الجيش الاسرائيلي ووحشيته ومواقف نتنياهو الداعية لإبادة الفلسطينيين وتهجيرهم وفقاً للمخطّطات الاستيطانية التوسعية، وخارطة اسرائيل الملطخة بالدماء.

مهى سلطان
المصدر: بيروت- النهار العربي

لمشاركة الرابط: