أعيان المعاني – ماء الكلام القصّ والقصّة والقصاص (9)

ما من أحد يعرف قيمة اللغة – أيًّا كانت – إلّا أهلها، لذا معرفة أقوالهم عنها تزيدنا علمًا وثقةً فيها. من هنا، ندرك أن الذين عرفوا عظمة لغة الضاد هم الذين عرفوا قدرها فاطّلعوا عليها وتعلّموها ثمّ غاصوا في بحار أسرارها – عربًا كانوا أم عجمًا – وشهاداتهم فيها تجعلنا نفخر بها حضارةً وثقافةً وهويّةً… خصوصًا من غير أهلها لأنّهم عرفوا قيمتها وهم غرباء عنها، ومنهم المستشرق الأميركي كرنيليوس فان ألن فان ديك (Cornelius Van Allen Van Dyck) الذي قال: “العربية أكثر لغات الأرض امتيازًا وهذا الامتياز من وجهين الأول من حيث ثروة معجمها، والثاني من حيث استيعاب آدابها”. هذا الشهادة تجعلنا نعتزّ بلغتنا الرائعة ونعلّم أبناءنا إيّاها، حيث إنّهم يجهلون فضلها وعظمتها ويعتبرون أنّ العربية لغة صعبة ومتخلّفة لا تواكب متطلّبات العصر…
ففضلًا عن كلّ ما ذكرنا عن العربية هنا وفي كتابات سابقة من إبداع وفنّ فيها، تمتاز هذه اللغة بالعبقريّة أيضًا؛ حيث إنّ عبقريّتها تكمن في قدرتها على تطويع معاني المفردات وإيصالها إلى القارئ بأسلوب عقليّ مميّز. ومن هذه المفردات “القصّ” جذر الفعل “قصّ” الذي يدلّ على تتبّع الأثر حتى النهاية. فنقول اقتصصت الأثر أي “تتبّعته”، وقد ورد في القرآن الكريم ﴿فارتدّا على آثارهما قصصا﴾ (الكهف، 64)، أي رجعا يقصّان الأثر – يتتبّعانه – الذي جاءا منه. من هنا كان اشتقاق “القصاص” و”القصّة” و”القصص”، وورد في القرآن أيضًا ﴿نحن نقصّ عليك أحسن القصص﴾ (يوسف، 3)، والقاصّ هو متتبّع الآثار ليأتي بالأخبار. و”القصيصة” و”القصّ” وآلة القطع “المقصّ”… من الجذر نفسه.
فالقِصاص لشخص أذنب هو تتبّع أثر ما فعَلَ ليُفعَل به ما أوقعه بغيره. أمّا القَصَص، ومنه القصّة، فهو تتبّع آثار الأخبار لذكرها. والقصّ هو الصدر، حيث كلّ عظمٍ فيه يتبع أثر الآخر ويتساوى به. والقصيصة من الإبل هي التي تتبع أثر الطريق في السفر. وقصّ الشعر هو التساوي بين شعرة وأختها فتصبح تابعة لها على آثارها حتى النهاية. لذا، نقول “قُصاصُ الشّعر”، أي نهاية منابته التي تتساوى في الأثر.
ومن هذا أيضًا، القاصي – البعيد – الذي يقصّ الأثر في السفر لإيجاد الرزق أو العمل، أو يُقَصُّ أثره لإيجاده. الوليد
وليد الخطيب

لمشاركة الرابط: