“بدايات الصحافة العربية” في متحف نابو … التاريخ إن حكى

خلال تنظيمه لمعرض بدايات الصحافة العربية الذي يُقام حتى 16 أيلول سبتمبر في متحف نابو الهري- شمال لبنان ، أطلق الباحث بدر الحاج نداءً “لإنقاذ التراث الصحافي العربي من الاندثار، والعمل على حفظه بوسائل حديثة، كي يكون في متناول الباحثين، لأنّه من دون معرفة الماضي والاتعاظ من دروسه، لا نستطيع النهوض مستقبلاً”.
جمع بدر الحاج طيلة عقود مجموعات من أعداد الصحف والمجلات العربية الصادرة حول العالم، لاسيما بعدما استرعىت انتباهه المخاطر الجمّة من إمكانية فقدانها واندثارها. لذا سعى إلى تنظيم هذا المعرض المتحفي من خلال تقديمه لمختارات متنوعة من نماذج نادرة تلقي الضوء على مراحل البدايات، من مجموعته ومجموعات خاصة أخرى من لبنان وبعض العواصم العربية.
كان الاختيار صعباً – كما يقول في مقدمة كتالوغ المعرض- نظراً إلى كثافة أعداد تلك الصحف والمجلات وتنوعها.
لذا اقتصر المعرض على مجموعات من نماذج بدايات الصحف والمجلات العربية (1858-1930)، كي تكون بمثابة شهادات على طلائع الصحافة العربية التي ثارت على الظلم، متخطّية ما بينها من فوارق سياسية واجتماعية، لتكشف عن وقائع سياسية ونضالات اجتماعية وثقافية تمحورت حولها مهنة الصحافة، في دعمها المطلق لمطالب الحرّية والعدالة.

الصفحات الأولى
على امتداد طابقين عُرضت في متحف نابو نماذج الصفحات الأولى المكبّرة من أشكال الصحف والمجلات العربية. صفحات متنوعة من الخطوط البيانية لكل جريدة او مجلة، فهي نماذج لرأس الصفحة الأولى وطرق تنظيم افتتاحية العدد. كما لو أنّ رأس الصفحة الأولى وجمالية تخطيط اسمها وزخارفها هما هويتها، هما عراقة التقليد المتوارث في إبراز شعارها.
وكذلك لها مهمّة التعريف عن كونها صحيفة او مجلة سياسية، علمية، أدبية، تاريخية واجتماعية – فكاهية، تصدر بشكل يومي او اسبوعي، إضافة إلى الدلالة إلى أسماء أصحابها وأماكن صدورها عن مؤسسات تبشيرية او نشرات أدبية وصولاً الى تحديد اسم “مدير الجريدة” أو كاتب المقال، واسم المطبعة التي توّلت طباعتها وتاريخ صدورها.
أخبار وأحداث وآراء تتصدّر الصفحات الأولى، التي تتمثل كنماذج لتعاقب أشكال تنظيم وإخراج (ماكيت) الجريدة او المجلة على عامود او عامودين او ثلاثة أعمدة لا تداخل بينها، وكأنّ كل عامود صفحة من كتاب.
هذا التجديد في إخراج الصفحة الأولى، كان بطيئاً ومتحركاً وحاسماً قبل دخول الإعلان والحرف المختصر البسيط والصورة.
فطباعة أسماء الجرائد كان غالباً باللون الأسود تحيطه أحياناً بعض الرسوم (مثل جريدة “برجيس بريس” التي صدرت في باريس عام 1858 ومجلة “سوريا المتحدة” التي صدرت في مكسيكو العام 1919 ومجلة “السائح الممتاز” التي أسسها عبد المسيح حداد سنة 1912). وفي متحف نابو عُرضت الصفحة الأولى من العدد الخاص من مجلة “السائح” للعام 1927، كتب فيه الأدباء المهجريون: جبران خليل جبران وايليا أبو ماضي ونسيب عريضة وميخائيل نعيمة وفيليب حتي وسواهم.
والجدير بالذكر أنّ تقنيات طباعة الصحف قد تطورت مع تقنيات الزينكوغراف لنشر الصور، التي بدأت باللون الأسود ثم بأربعة ألوان أساسية، قبل ان تُعتمد الطباعة بالأوفست.

صحافة الأقاليم
الملاحظ انّ معظم الصحف والمجلات التي صدرت في ولاية بيروت ما بين 1881-1890، كانت صحافة أصحابُها أفراد، وإن كان كلٌ منهم محسوباً على طائفته ومنطقته.
كما عَرفت فترة ما بين 1891-1900 نشوء صحافة الأقاليم، ولم تعد الصحف تصدر من بيروت وبعبدا فقط، فمن طرابلس صدرت صحيفة “طرابلس” لمحمد كامل بحيري عام 1892 التي استمرت حتى عام 1920.
واللافت انّ صحافة الأقاليم حضنت صحافيين ورسامي كاريكاتور رواداً.
في العام 1893 أنشأ سليم الأنسي (صاحب صحيفة روضة المعارف) أول مطبعة في بيروت استخدمت الحروف الأميركية، ثم اشترى حروفاً من فرنسا وسعى الى تطوير تقنيات مطبعته كي تعمل بالبخار.
ومع نهاية القرن التاسع عشر أمست المطابع في بيروت تزيد عن 20 مطبعة، إضافة الى مطابع جبل لبنان، وراحت تتطور في آلاتها وأشكال حروفها مع رواج إصدارات الصحف والمجلات والكتب. وشهدت افتتاحيات صحف تلك المرحلة بعض التحسن في صياغة لغتها وابتعدت عن الركاكة وعن تضمين مقالاتها لمفردات عامية.
كانت صحافة الأقاليم على علاقة واسعة مع مغتربي لبنان في المهاجر، وكانت تتميز بكتابة الحقائق من دون تحريف، لاسيما خلال إعادة العمل بالدستور العثماني عام 1908 وصدور قانون المطبوعات عام 1909، ومنع التداول بالامتيازات الصحافية.
راجت في بيروت والمناطق في تلك المرحلة إصدارات الصحف المتخصّصة بالفكاهة، في ظاهرة اجتماعية لافتة، نرى بعض محطاتها في متحف نابو من خلال عرض الصفحة الأولى من جريدة “الحمارة بلدنا” التي صدرت في بيروت، وهي “جريدة هزلية انتقادية فكاهية أسبوعية مصورة”، صاحبها ومحرّرها توفيق جانا ومديرها المسؤول نجيب جانا.
وكذلك الجريدة الهزلية “السعدان” التي صدرت في سنتها الأولى العام 1912 في مدينة طرابلس- الشام، صاحبها ومحررها ومديرها المسؤول محمد صلاح الدين مراد.
وجريدة “الصحافي التائه” التي أصدرها إسكندر رياشي في زحلة عام 1922، وجريدة “الكشكول” التي أصدرها محمد باقر في بيروت عام 1922، وجريدة “الدبور” التي أصدرها يوسف مكرزل في بيروت عام 1923، وجريدة “الاحرار المصورة” التي أسسها جبران تويني عام 1926، وجريدة “أبو دلامة” التي أصدرها محمد شهاب في صيدا عام 1927، علماً انّ اغلب الدوريات الكاريكاتورية وَسَمت نفسها بأنّها انتقادية فكاهية ساخرة مصورة.
في تلك الحقبة من أواخر العشرينات أخذت أغلب تلك الصحف تسمياتها من حضارة الانتداب الفرنسي حيث “كل شي: فرنجي برنجي”، ومن الذاكرة الشعبية أيضاً، من خلال اعتمادها على اللهجة العامية والدفاع عن العربية الفصحى بعد ان لحظ مشروع دستور عام 1926 اعتماد اللغة الفرنسية بموازاة اللغة العربية لغتين رسميتين في الإدارة، لاسيما في الأمور القضائية، فجهد الادباء والصحافيون لمنع ذلك.

بين مصر ولبنان
يؤكّد الباحث بدر الحاج “انّ النصف الأخير من القرن التاسع عشر شهد انتشاراً واسعاً للصحافة العربية سواء في السلطنة العثمانية وشرق آسيا وأوروبا وأقطار المغرب العربي، أو القارة الأميركية. ونظراً إلى الرقابة الصارمة على المطبوعات في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، انتقل عدد من الصحافيين والكتاب السوريين ممن كان يُطلق عليهم عبارة (الشوام) الى مصر، حيث ساهموا في نشر عشرات المجلات والصحف في كل من القاهرة والإسكندرية بشكل خاص، (تمّ عرض نماذج من تلك الصحف والمجلات في هذا المعرض)، وكذلك الأمر بالنسبة الى الصحف التي أصدرها المهاجرون سواء في أوروبا او اميركا الشمالية والوسطى والجنوبية”.
إنّ كثافة أعداد الصحف كانت موزعة بين مصر ولبنان، كما تشير الإحصاءات الى انّه منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى العقد الأول من القرن العشرين صدرت في مصر 394 دورية وجريدة، في حين كان عدد الصحف والمجلات في لبنان قد بلغ ما يقارب الـ 55 وتدريجياً ارتفع العدد في البلدين وانتشرت بأعداد أقل الصحف والمجلات في كل من سوريا وفلسطين والعراق والحجاز.
والملاحظ انّ الصحف والمجلات التي صدرت في أوروبا، شملت بلداناً عديدة في أوروبا، بالإضافة الى صدور صحف ومجلات في جزيرتي قبرص ومالطا، وفي إسطنبول وطهران والهند وسنغافورة وجاوا وسومطرة.
أحصى الفيكونت فيليب دو طرزي (في كتابه الموسوعي تاريخ الصحافة العربية) في العام 1929 صدور43 صحيفة ومجلة في فرنسا فقط.
كانت الصحف والمجلات تعبّر عن آراء سياسية متضاربة، بعضها عثماني الولاء والبعض الآخر يؤيّد السياسة البريطانية أو الفرنسية، وبعضهم يدعو الى التحرّر والاستقلال ومحاربة العثمانيين.
وكانت بعض الصحف العربية التي صدرت في البدايات أداة في نشر الوعي الوطني والدعوة إلى التحرّر من التقاليد القديمة والصراعات الطائفية. كان من أوائل تلك الصحف جريدة “نفير سوريا” التي أصدرها بطرس البستاني عام 1860، التي نشرت الوعي الوطني ودعت الى الإقلاع عن العصبيات الطائفية. ولمعت أسماء ما لبثت أن لعبت دوراً أساسياً في يقظة العرب على الأصعدة كافة، أمثال احمد فارس الشدياق، بطرس البستاني، ناصيف اليازجي، فرح أنطون، جبران خليل جبران، أمين الريحاني، خليل سعادة، وغيرهم كثر.
كانت بيروت رأس جسر للداخل والخارج، وضعته الحضارة الغربية بكل حسناتها وسيئاتها. بدأ الاخذ السريع بكل شيء مستورد ابتداءً من الآلة والاختراعات وانتهاء الى ظهور نوع جديد من اللباس والعادات والعلاقات الاجتماعية بين الناس.
لذا نجد في صحافة 1930 مظاهر نهضة اجتماعية وادبية، من خلال الاهتمام بنشر الصور الاجتماعية والإعلانات في الصحف والمجلات التي تُعنى بترويج السلع التجارية: السيارات والهاتف وآلة الدكتيلو والراديو وأفلام السينما والحفلات الموسيقية الغنائية وإعلانات افتتاح المحلات التجارية الكبرى الخاصة بالألبسة المستوردة من باريس.
في أروقة متحف نابو يتجلّى التاريخ للمرّة الأولى على صفحات الصحف التي يتقلّب بين ظهرانيها عالم السياسة وأحداثها ومجرياتها، في ظلّ تطور الحياة العصرية وانعكاساتها على المجتمع اللبناني، لنشعر احياناً انّ التاريخ يعيد نفسه وأنّ الانقسامات الطائفية ليست طارئة، وأنّ تطلعاتنا الى المحيط العربي والغربي ما زال في طور التحدّيات. فالمعرض هو من الأهمية بحيث أنّه يشكّل حقاً الذاكرة الحية التي لم نعترف بها بعد.

مهى سلطان
المصدر: بيروت- النهار العربي

لمشاركة الرابط: