موسم الهجرة المرير في معرض السّوداني راشد دياب

بعد غياب طال أكثر من عشرين عاماً، تستقبل بيروت أعمال الفنان السوداني راشد دياب من خلال دعوة وجّهها له المدير الفني برّاق نعماني، لإقامة معرض له في الغاليري التي تحمل اسمه (شارع جان دارك المتفرع من الحمرا).
يضم المعرض مجموعة أعمال أنجزها الفنان، في الظروف الصعبة التي عاشها تحت وطأة الحرب والدمار والنهب الذي طاول محترفه ومقرّ سكنه في الخرطوم، ليخرج صفر اليدين، ما خلا بعضاً من أوراقه وقماشات ألوانه المحمّلة بغبار الحرب وشقاء الرحيل.
خمس وعشرون لوحة (بتقنية الأكريليك على ورق وقماش) وصفها نعماني في كتيب المعرض بأنها “تعكس العالم المدهش للفنان، حيث تتشابك المشاعر والقصص والرؤى، وهي الأمل إزاء فوضى الحرب”.
موسم الهجرة المرير
“موسم الهجرة المرير”، عنوان وضعه الفنان من وحي يوميات الحرب ومعاناة النزوح والهجرة، وهو يذكّر بالرواية الشهيرة للكاتب السوداني الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”.
لعلّه من سبيل المصادفة بالنسبة إلى فنان اختبر الهجرة في حياته وقاساها، أو لعلها القدرية التي تجمع بين زمنين متغايرين.
شيءٌ من الحنين والاستذكار لزمن الرواية (مرحلة ما بعد الاستعمار)، إزاء درامية النزاعات الدائرة في السودان حالياً، وصراع النفوذ وحرب الشوارع التي دمرت الأحياء السكنية في الخرطوم، ودفعت السكان إلى النزوح والهجرة بحثاً عن الأمان.
إنها ليست مفارقة فحسب، بل ثمة صداقة وقواسم مشتركة جمعت ما بين الروائي الكبير والفنان الذي تخطى الحدود الإقليمية لبلده وفاقت شهرته أبناء جيله من خلال معارضه العربية والدولية التي كرّسته واحداً من أشهر المؤثرين في المشهدية العربية المعاصرة.
تتجلى تلك القواسم في الخطاب الوجودي الذي صاغه كلٌ منهما على طريقته في تجسيد الواقع وتجاوزه في آن، نحو فانتازيا المتخيّل، والعلاقة بالتاريخ كمصدر للذاكرة الجماعية، فضلاً عن الإحساس بالجذور والحنين إلى الأرض والتّعلق بالهوية وخصائص المكان وطبيعته.
وصف الروائي الطيب صالح أسلوب الفنان دياب فقال إنه ليس تجريدياً صرفاً ولا تعبيرياً صرفاً: “إنه مزيج من هذا وذاك. في تقديري الخاص، إنه ما كان يستطيع أن يكون تجريدياً صرفاً نظراً إلى الطاقة الإبداعية المتأججة لديه، والمخزون الحضاري والوجداني الهائل الذي يحمله بالضرورة، ولا شك عندي بأن التجارب بين تقنيات التعبير الحديثة التي اكتسبها والمضمون الأصيل لديه هو الذي أعطاه أسلوبه المتفرد الذي اشتهر به. وهو فنان يحظى بتقدير واسع في العالم”.
راشد دياب (من مواليد واد ميداني في عام 1957) رسام وملوّن بارع وفنان طباعيّ بامتياز، تلقى تكوينه الأكاديمي في جامعة الخرطوم، ما جعله رساماً واقعياً وخطاطاً ومزخرفاً في آن واحد، شأنه شأن معظم فناني جيله في فترة أواسط السبعينيات.
إلا أن دراسته المعمقة للفنون في مدريد أوائل الثمانينيات وضعته في مواجهة روائع الأعمال المتحفية التي اكتسب منها أسرار فلسفتها الجمالية، فانغمس في تحليل المواد والتقنيات اللونية بكل مؤثراتها البصرية في العمل الفني، وهو الأمر الذي كان يفتقر إليه في السودان.
ثم انصرف بعد حصوله على الدكتوراه في فن الحفر، إلى استعادة علاقته القديمة بالخط ورسم الأشكال، ما أحاله من جديد إلى ينابيع الحضارة العربية الأفريقية وتراثها الإنساني والآثاري القديم. توصل من خلال التجريب على سطح المحفورة إلى خصوصية متفردة في استنباط عناصرها ومفرداتها، استطاع من خلالها أن يدمج ما بين الثقافتين الغربية والشرقية بلغة حديثة وراقية، جعلته يقطف في أعماله الحفرية على وجه الخصوص، نجاحاً سريعاً في بينالات الغرافيك العربية والعالمية، حتى قيل إن محفوراته تنافس أعمال من سبقه من المبدعين العرب من أمثال محمد عمر خليل (فنان سوداني معروف مقيم في نيويورك).
منذ عام 1993 دخلت أعماله في مقتنيات العديد من المتاحف العربية والعالمية.

ما بين ثقافتي الشرق والغرب
في معرضه الحالي (يستمر حتى 30 حزيران/ يونيو) تتراءى مشهدية النزوح القسريّ كحال من الهلع تطغى على الجماعة وسط حالة التشرذم والاضطراب.
على رمال الصحراء الذهبية ثمة ظلال تتحرك لنساء مع أمتعتهن، ورجال تركوا أعمارهم خلفهم ومشوا إلى أقدارهم الحزينة. كل لوحة هي مشهد كأنه صورة داخل صورة، وهمٌ داخل وَهم. لا شيء يمكن أن يقال حين يصير الواقع شيئاً غريباً لا يُصدق.
ثمة سرد لحكاية الهجرة، بأسلوب تشخيصيّ موجز وإيحائيّ ولمّاح يعتمد على التقطيع المشهدي، ويؤسس نسيجاً متحركاً بعيداً من الدرامية، يعكس إيقاعات من أحوال فرار الناس الذين يواجهون أقدارهم الموجعة، بعضهم قابع داخل فضاء اللوحة وبعضهم خارجها، والناس، أكانوا جماعات أم وحداناً، هم ما بين ناري الداخل والخارج، ما بين مرارة الهجرة وخطر الموت.
لقطات داخل التركيز وخارجه (في عدسة الرؤية) في مسار النزوح الجماعي، حيث لا أرض ولا سماء، بل مجرد سراب.
أما التكاتف بين جماعات الناس الذي هيمن على أعماله في التسعينيات، فكأنه تقسّم بفعل انكسارات الحرب التي أطاحت الاستقرار والأمان والبيوت.
لا طائر يغرد ولا فأس يلمع في الحطب ولا حقول تنبسط كراحة اليد إلى أطراف الصحراء، بل ثمة خلاء كبير، كالأرض اليباب التي يعصف بها الغبار، حيث الناس كأطياف من الظلال الملونة، منهم من يقف على أفق رجراج ومنهم في حال انتظار، وآخرون هربوا وخرجوا من إطار الرؤية إلى المجهول.
الفراغ يمثل حال الضياع والتلاشي، إنه الفراغ المريب والقاتل الذي يتلاعب به راشد دياب بذكاء في توجيه الضربات اللونية، وفق تأليف حلزوني أو انشطاري يعتمد على حواشي مساحة اللوحة ويبتعد من مركزيتها، ليشير إلى الحياة المهددة ولوعة الفراق والهجران.
وبرغم التقشف في التعبير اللوني الذي يتبدى في أعماله الأخيرة، تتراءى في بياض النهار لمعات الزخارف في طيات اللون وأمواجه وهي بين ظهور وخفاء، يرسمها الفنان على صخرة أو يُزيِّن بها أفقاً أو يُذيِّل بها ثوب امرأة أو يُرسلها على جناح طائر.
اللافت هو علاقة راشد دياب بالشكل الإنساني، والتي تحولت مع الوقت إلى لغة صُوَريّة ذات مرجعية متّسمة بالسرعة والبداهة، سواء أكان الشكل مستلهماً من طبيعة السودان وواقعها البيئي والحياتي الراهن، أم من ماضٍ سحيق، هي دوماً بين مدّ وجزر.
فالانخطاف باللون وسبر أغواره وكشف تأثيراته البصرية كانت قد سيطرت على إنتاجه التجريدي لسنوات خلت، من دون أن يصل إلى مفهوم العدمية، لأنه كان دوماً يزرع في جسم اللون تعاويذه وإشاراته ورموزه الأسطورية، ما يعطي للمساحة الملغّزة مظاهر الوشم، ويستدعي قراءة مغايرة عن قراءة اللون، فضلاً عن تلاعبه بالمساحة نفسها التي يعمد إلى تجزئتها ومُساءلتها بالخامات والمواد المتعددة الإيحاءات.
نوستالجيا الجماعة
تشير أعمال راشد دياب دوماً إلى العمق الإنساني الذي يمكنه أن يظهر من خلال إشارات ورموز من التراث الشعبي الأفريقي، وما هي إلا بصمات إنسانية وحضارية، رافقته منذ بدايته في إسبانيا، حين كان يستعيد وجوه الناس الذين تركهم في وطنه، هؤلاء اللصيقون به (أمه وأبوه وأخته).
كان ذلك نوعاً من النوستالجيا قبل أن يستحضر مفهوم الجماعة الكامن في العادات الاجتماعية السودانية (المناسبات والعشائر والطقوس الدينية والصوفية والمظاهر الحياتية)، مستخدماً فيها تصميمات حروفية وزخرفية مستلهَمة من التراث الإسلامي.
ثم أخذته في المرحلة الثانية التقنيات اللونية المكتسبة من التراث النهضوي الغربي إلى سيرته الذاتية عبر سلسلة بعنوان “ذكريات الطير المهاجر”، وهي التعبير الشعري عن أحلام اليقظة، والبيئة المشمسة المفتوحة لشمال السودان حيث مسقط رأسه، ناقلاً شعوراً دافئاً بالصفاء والألفة، فيما مرحلته الثالثة الممتدة حتى أوائل التسعينات، وهي سلسلة معنونة بـ”الفردوس” و”المساحة الحمراء”، كانت الأكثر مغامرة وتجريداً وغوصاً في مزايا اللون وطبقاته، كرحلات خيالية مليئة بالرموز المستمدة من الزخرف الشرقي والأساطير.
بعد إقامته الطويلة في مدريد زهاء عشرين عاماً، عاد ليفتتح له محترفاً وورشة عمل في الخرطوم.
منذ ذلك الحين أخذت تتراءى في أعماله النساء عند بوابات تفتح على نور عميق وسط الضباب، حيث القامات مؤسلبة كأطياف وسط فراغ لونيّ مأهول بالطلاسم والكتابات لكأنها كتابات على الجدران. فتَرى الفنان يقطف حركة الرداء الفضفاض للمرأة السودانية والزخارف الشاردة عليه في المدى المقفر إلا من الضوء واللون الحار.
راشد دياب في معرضه البيروتي يسرد حكايات النزوح ويوقظ الذكريات البعيدة النائمة في ضمير الجماعة، في فضاء مضطرب تقطعه سحب اللون ويتخلله الضوء، وتنكسر فيه الظلال ضمن رؤية تبني وتؤلف وترتجل سحر تلاوينها.

المصدر: النهار العربي – مهى سلطان

لمشاركة الرابط: