كتبت صحيفة الشرق الأوسط تقول: يكفي التوقف عند حقيقة أنه على مدى 79 عاماً، أي أنه منذ استقلال لبنان عام 1943 حتى يومنا هذا، لم تنتقل السلطة من رئيس جمهورية إلى آخر بطريقة سلسة وفي سياق انتخابات رئاسية طبيعية، إلا خلال عهدين فقط من أصل 12، لتبيان حجم التعقيدات التي أحاطت بنهايات العهود، والتي لا تزال تحيط بها بحيث تنتهي معظمها راهناً بفراغات باتت تهدد فعلياً النظام كما الكيان اللبناني الهش الذي تعصف به كل أنواع الأزمات.
وقبل نحو شهرين من انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، توحي المعطيات الراهنة بأن البلد سيدخل مجدداً في فراغ رئاسي يشبه ذلك الذي دخله عام 2014، بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. فالتوازنات داخل المجلس النيابي لا تتيح لأي فريق تأمين نصاب جلسة الانتخاب الذي يحدده الدستور بـ86 نائباً، كما يبدو أنه من الصعوبة بمكان أن تنجح القوى المتصارعة أن تؤمن أصوات 65 نائباً لأي مرشح، من دون تسوية تسبق العملية الانتخابية.
وبحسب الوزير السابق البروفسور إبراهيم نجار، تترافق عبارة «نهاية العهود» بصورة عامة في الأنظمة البرلمانية و«الديمقراطية» مع التعبير العامي القائل: «يا تارك كتّر القبايح»! بمعنى آخر: تلازم هذه العبارة مشهداً آخر من مشاهد ممارسة السلطة، وهو ناتج عن «اهتراء السلطة» تبعاً لممارستها، والتعرض للانتقادات والتهجمات وسقوط الشعارات وبروز الإشكالات التي تفضي إلى ضرورة تبديل السلطة والأكثرية لكي تقوم مكانها أكثرية جديدة، وهو ما يسمى التناوب في السلطة. ويعتبر نجار أن «رئاسة الجمهورية في لبنان لم تخرج عن هذه القاعدة. فلماذا يعطى رصيد لمن هو على وشك الترحيل والترك؟ أليست السياسة هي في أساسها فن الوصول إلى السلطة؟» لافتاً إلى أنه في لبنان: «البلد الديمقراطي في المبدأ والبرلماني في خطوطه العريضة الدستورية، تميزت نهايات العهود فيه بمجموعة من الممارسات، أبرزها تجنيس الأجانب لقاء عمولات أو نفوذ، وتعيين سفراء، واقتسام المغانم والصفقات، والتحضير للوراثة السياسية. بكلمة أخرى: لبنان على الورق وفي الدستور هو غير لبنان في الممارسة».
ويرى نجار في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن نهايات «العهود» منذ اتفاق الطائف حتى يومنا هذا «لم تكن متشابهة»، لافتاً إلى أنه «في أيام الانتداب السوري تمّ تمديد ولاية كل من الرئيس لحود والرئيس الهراوي، وبعد خروج الجيش السوري من لبنان في أبريل (نيسان) 2005، تولى حليفه (حزب الله) في لبنان محاولة فرض الرئيس ميشال عون، وتعرض النواب لمحاولات اغتيال ولاغتيالات عام 2005، كما تمت محاصرة السراي الحكومي وإغلاق مجلس النواب، إلى أن تم توقيع اتفاق الدوحة الذي أدى إلى انتخاب الرئيس ميشال سليمان، بدلاً من الجنرال ميشال عون. وبقي هذا الأخير في موقع مشاكسة الرئيس ميشال سليمان طيلة عهده». ويضيف نجار: «الرئيس سليمان ترك بعبدا في الموعد الدستوري، وخرج منه بالمراسم الاحتفالية. لكن البلاد وقعت في الفراغ؛ لأن حلفاء الرئيس ميشال عون مارسوا سياسة (حافة الجحيم) أو (حافة الفوضى)».
ومنذ استقلاله عام 1943، عرف لبنان قبل «اتفاق الطائف» 8 رؤساء جمهورية، هم: بشارة الخوري، وكميل شمعون، وفؤاد شهاب، وشارل حلو، وسليمان فرنجية، وإلياس سركيس، وبشير الجميل، وأمين الجميل. وبعد «الطائف» تعاقب على سدة الرئاسة 5 رؤساء، هم: رينيه معوض، وإلياس الهراوي، وإميل لحود، وميشال سليمان، وميشال عون.
ويسرد جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية بالتفاصيل، كيف كانت تنتهي العهود قبل «اتفاق الطائف» الذي وُقّع عام 1989 منهياً الحرب الأهلية اللبنانية، وكيف باتت تنتهي بعده، وكيف أن القاسم المشترك بين معظم العهود كان أن نهاياتها لم تكن تلحظ انتقالاً سلساً للسلطة. ويشير غانم إلى أنه «قبل (الطائف) كان هناك انتقال واحد سلس للسلطة، بحيث انتقلت الرئاسة من فؤاد شهاب إلى شارل حلو؛ لكن العهد بقي يُعرف بالعهد الشهابي، والسلطة والإدارة كانت شهابية، أي وكأننا كنا نشهد انتقالاً للسلطة من ضمن العهد الواحد». ويضيف: «أما بعد الطائف فالانتقال الوحيد السلس نسبياً شهدناه مع انتقال الرئاسة من إلياس الهراوي إلى إميل لحود، وقد حصل ذلك ضمن العهد الواحد، العهد السوري».
ويلفت غانم إلى أنه «منذ العهد الأول للاستقلال، عهد بشارة الخوري حتى يومنا هذا، اعتدنا أن تنتهي العهود إما بثورات دموية أو بيضاء، أو بفراغ دستوري، أو باضطرابات ومشكلات وحروب، فالرئيس بشارة الخوري سقط عام 1952 بانقلاب أبيض دستوري، وباضطرابات وإضراب عام أدى لانتخاب الرئيس كميل شمعون الذي انتهى عهده بثورة دموية، انقسم خلالها البلد طائفياً وبين المحاور: محور مؤيد للرئيس المصري جمال عبد الناصر، ومحور مؤيد للأميركيين والغرب. الثورة بحينها بدأت عام 1958 ولم تنتهِ إلا مع بداية عهد فؤاد شهاب».
ويضيف غانم: «أما عهد شارل حلو فانتهى بمشكلة مع الفدائيين الفلسطينيين، وصولاً لعهد سليمان فرنجية الذي انتهى باندلاع الحرب الأهلية التي بدأت في 13 أبريل 1975».
وبينما يشير غانم إلى أن «عهد إلياس سركيس انتهى باجتياح إسرائيلي»، يعتبر أنه مع نهاية عهد أمين الجميل في عام 1988 «انتهت الجمهورية الأولى؛ إذ لم يتم انتخاب رئيس، وتعطلت الجلسات، وشُكّلت حينها حكومة برئاسة قائد الجيش ميشال عون، مؤلفة من المجلس العسكري، قاطعها الأعضاء المسلمون، فوقع خلاف دستوري- قانوني حول شرعيتها، مقابل شرعية حكومة سليم الحص التي كانت تمثل الطرف الآخر المسلم، والتي اعتبر الجميل أنها غير شرعية ودستورية؛ لأن رئيسها الفعلي -أي رشيد كرامي- تم اغتياله، كما أنها حكومة مستقيلة ترأسها بوقتها سليم الحص بالوكالة».
وبعد «اتفاق الطائف»، لم تحصل أزمة في نهاية عهد إلياس الهراوي الذي تم تمديد ولايته الرئاسية، إنما وقعت الأزمة عام 1995 حين تم تعديل الدستور والتمديد له 3 سنوات، ما خلق -بحسب غانم- إشكالاً كبيراً في البلد، مضيفاً: «منذ طرح التعديل الدستوري في أبريل 1995 حتى التمديد للهراوي في أكتوبر (تشرين الأول) 1995، خسر مصرف لبنان حوالي مليار و850 مليون دولار من احتياطاته»، وفي عام 1998 جرت انتخابات سلسة أتت بإميل لحود تحت مظلة العهد السوري.
أما عهد لحود فانتهى بعد حرب تموز 2006، بمقاطعة ما بات يُعرف بقوى «14 آذار» وحلفائهم الغربيين والعرب لرئيس الجمهورية، وبخلاف كبير مع رئيس الحكومة وقتها فؤاد السنيورة، وهي حكومة اعتبرها لحود وحلفاؤه وأبرزهم «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» غير شرعية، نتيجة انسحاب الوزراء الشيعة منها. ويقول غانم: «غادر لحود قصر بعبدا في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2007، بعدما أصدر بياناً أوحى من خلاله أنه سلَّم قائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي لم يأخذ بهذا الكتاب. واستمرت حكومة السنيورة تُصدر مراسيم لا تُنشر ولا تُطبق».
واستمر الوضع المتوتر والفراغ الرئاسي حتى 25 مايو (أيار) 2008، يوم انتخاب الرئيس ميشال سليمان. وقد سبق ذلك اجتياح «حزب الله» وحلفائه للشطر الغربي من بيروت، وقسم من الجبل في السابع من مايو، ما أدى لكسر ميزان القوى، وقامت على أثرها وساطة عربية تولتها قطر بتفويض إقليمي– دولي، انتهت بتوقيع اتفاق الدوحة الذي كان بمثابة دفتر شروط لحظ كيفية تشكيل الحكومة، واعتمد قانون انتخاب 1960 معدلاً.
ويعتبر غانم أن «عهد ميشال سليمان انتهى عملياً عام 2011، عندما سقط اتفاق الدوحة، وبدأ الربيع العربي، والانسحاب الأميركي من العراق»، لافتاً إلى أن السنوات الثلاث الأخيرة من العهد شهدت كثيراً من الخلل والاضطرابات الأمنية والتفجيرات، وكان البلد بوقتها حقيقة على شفير حرب أهلية. ويقول: «بعد استقالة ميقاتي عام 2013، بقي تمام سلام 11 شهراً حتى تمكن من تشكيل حكومة، أي بقي البلد في الفراغ لحوالي عام. حكومة سلام تشكلت بهدف إدارة مرحلة الفراغ الرئاسي التي كانت متوقعة، واستمرت عامين وستة أشهر». ويذكّر غانم بأنه «بوقتها طُرح تمديد ولاية ميشال سليمان؛ لكن ميشال عون لم يقبل، كما لم يقبل ميشال سليمان نفسه؛ لأنه كان يعلم أن (حزب الله) لن يسير بطرح كهذا».
وبعدها، تمت الدعوة لـ45 جلسة لانتخاب رئيس، لم يتأمن النصاب القانوني لعقدها طوال عامين و6 أشهر، حتى التوافق على انتخاب ميشال عون عام 2016.
وبينما يرى كثيرون أن البلد مقبل بعد انتهاء ولاية عون في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول)، على مرحلة تشبه كثيراً مرحلة الفراغ بعد انتهاء ولاية ميشال سليمان، يعتبر غانم أن «الوضع يختلف اليوم، بحيث إن الفرز كان واضحاً في مرحلة 2014- 2016، والمشروعات كانت واضحة، كما أنه والأهم الواقع الاقتصادي لم يكن كما هو حالياً، كما أن المرشحين كانوا محصورين ومحددين وواضحين»، مضيفاً: «في المرحلة الراهنة المجلس النيابي مفتت، وقوى (14 آذار) مشتتة، والقوى الدولية الداعمة لها منكفئة، إيران غير قادرة على أن تفرض مرشحها، لا مرشحين واضحين وجديين، ولا مرشح لديه القدرة على جمع الأصوات اللازمة التي تؤمِّن فوزه، كما أنه وبخلاف المرة السابقة؛ حيث كانت لدينا حكومة قائمة، نحن اليوم في كنف حكومة تصريف أعمال، هناك اشتباك سياسي حول شرعيتها الدستورية». ويرجح غانم أن نتجه لتعطيل جلسات انتخاب الرئيس من قبل طرفي الصراع، لمنع وصول المرشح الخصم.