ولد مصطفى فروخ في عام 1901 في محلة البسطة التحتا ، شارع الخرسا في أسرة متوسطة الحال . والده محمد عبد القادر ووالدته أنيسة سميسمة . رزقهما الله أربعة أبناء كان مصطفى أصغرهم. توفي الوالد حوالي عام 1906 وتكفّلت الأم والإبن الأكبر عبد الكريم برعاية العائلة. أرسل الصبي الأصغر إلى الكتّاب (مدرسة الشيخ جمعة القريبة من منزل العائلة) ليتعلّم القرآن وحسن الخط والعد، وكان حين تتاح له الظروف يذهب خفية إلى المرفأ لمشاهدة البحر والبواخر، ثم يعود ليرسمها في بيته، رغم صعوبة الحصول على أوراق وأقلام.
كتب في “طريقي إلى الفن”:”.. هكذا، ولأمر ما، قذف بي الخالق إلى هذا الوجود، وزوّد يدي بالريشة، وعيني باللون، وفكري بالنور. فما إن بدأت أعي، وكان لي خمس سنوات على ما أذكر، حتى أخذت أملأ الأوراق والجدران بما كانت تقع عيناي عليه، من غير أن أعرف لذلك سبباً”.
في طفولته قيّض الله له رجلان كان لهما الفضل في اكتشاف موهبته وتشجيعه على الإستمرار رغم القيود الإجتماعية لهذا النوع من الفنون آنذاك. أولهما كان الأستاذ طاهر التنير مدير مدرسة، كان فروخ أحد تلامذتها، والشيخ مصطفى غلاييني الذي رسمه في بورتريه زيتي رائع عام 1946 وهو في عداد مجموعة المحفوظات الوطنية. أعطى الشيخ الغلاييني للصبي الصغير مصطفى فروخ الدافع الروحي على الإستمرار، وأعطاه الأستاذ التنير الدافع المادي حين أخذه إلى أستديو المصوّر جول ليند في محلة الزيتونة وعرّفه على الآنسة جرترود إبنة المصوّر التي أعجبت بموهبته وصارت تعطيه دروساً في الرسم. أما الأستاذ طاهر التنير فقد أصدر جريدة “المصور” بعد إقفال مدرسته وطلب من الصبي الموهوب فروخ رسوماً للجريدة التي استعمل في تنفيذها الحبر الصيني لأول مرة في حياته.
في عام 1916 قام الأديب صلاح الدين لبابيدي بتعريف فروخ على الرسام الكبير حبيب سرور المتوفى عام 1938، فتتلمذ على يديه إلى عام 1924 وتأثّر كثيراً بأسلوبه الواقعي الكلاسيكي. واستطاع سرور إقناع تلميذه بمتابعة دراسته في روما، فإجتهد كثيراً برسم الأشخاص ليجمع مالاً يمكّنه من السفر. وفي صبيحة الخامس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) من عام 1924 ركب الباخرة الإيطالية “برازيل” متوجهاً إلى بلاد الفن الجميلة بعد أن انتظر كثيراً لتحقيق هذا الحلم الرائع.
وفي روما، دخل المدرسة الحرّة Scuola Libera للتمرّس بالفن استعداداً لدخول الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة Reggio Accademia di Belle Arti وفيها تعرّف بالأستاذ الفنان كالكانيادورو Antonio Calcagnadoro ونشأت بينهما صداقة، خاصة أنه كانأيضاً من محبذي الفن الكلاسيكي.
وفي عام 1925 فاز فروخ بإمتحان الدخول إلى الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة متتلمذاً على الأستاذ كورومالدي Umberto Coromaldi. وفي اليوم الأول لدخوله إلى صف الرسم في الأكاديمية يمكننا أن نتخيل موقف وشعور إبن العائلة المحافظة البسطاوية وهو يقف وجهاً لوجه أمام حسناء عارية تقف كـ “موديل” لتلامذة الرسم.
في تلك الفترة، ولحين عودته إلى الوطن، نال فروخ دبلوم الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة، وشارك ببعض أعماله في العاصمة الإيطالية ثم سافر إلى باريس في صيف 1926 والتقى بالنحات اللبناني الكبير يوسف الحويّك. وفي الثاني عشر من كانون الأول (ديسمبر) من تلك السنة كان يوم الرحيل إلى الوطن. كتب في “رحلتي إلى الفن” عن ذاك اليوم بعد أن سأله أستاذه عن سبب حزنه: “لأنني أفكر في الصعوبات وفي المستقبل المظلم الذي ينتظرني هناك. إنك تعرف مستوى الفن عندنا ودرجة إدراك الناس له “.
وفي بيروت إتخذ فروخ استديو صغير في سوق أياس إنكب فيه على رسوماته وبخاصة اللوحات الوطنية في تلك الفترة. ورغم أن المحترف كان غرفة صغيرة لا تزيد طولاً وعرضاً عن بضعة أذرع، إلا أن الرسام إستقبل فيها نخبة من المثقفين منهم كرم ملحم كرم والمستر سيلي الأستاذ في الجامعة الأميركية ومدير الوست هول الذي اقترح عليه إقامة معرض في القاعة الخضراء في الجامعة وتدريس الفن للراغبين من طلابها. وبالفعل أقيم المعرض الذي عرض فيه فروخ 83 لوحة من أعماله، وباشر التدريس.
في أواخر عام 1929 سافر فروخ إلى باريس حيث كان حلمه أن تعرض لوحاته في “الصالون” الذي تنظمه الجمعية الوطنية للفنانين الفرنسيين، وتم له ذلك مطلع عام 1930 بقبول عرض لوحته “أستاذي” وهو بورتريه حبيب سرور الذي أنجزه في عام 1928. وفي صيف 1930 توجّه إلى إسبانيا وزار مدن الأندلس واطّلع عن كثب على الفنون الإسلامية الجميلة ، ورسم هناك هذه المعالم بلوحات رائعة. ثم قفل عائداً إلى باريس في عام 1931 وشارك في “الصالون ” مجدداً بلوحتين من أعماله ورسم عشرات اللوحات لكل ما تقع عليه عيناه في العاصمة الفرنسية وأنجز فيها كتابه “رحلة إلى بلاد المجد المفقود”.
عاد فروخ إلى لبنان أواخر عام 1931، وعمل فترة في شارع ويغان بمنطقة أسواق بيروت، ثم اتخذ محترفاً نهائياً له في بيت والديه في البسطة التحتا، وانكب كذلك على نشر الثقافة الفنية في مجتمعه من خلال ممارسة التدريس وإلقاء المحاضرات ونشر المقالات في الصحف والمجلات. وأقيم له معرض في الوست هول بالجامعة الأميركية في بيروت إستمر من 4 إلى 12 كانون الأول من عام 1932 وتم تكريمه في نفس القاعة يوم 28 نيسان 1933 بإفتتاحية موسيقية للأخوين فليفل. وفي عام 1935 توفيت والدة فروخ، وفي السنة التالية تزوج من ثريا أحمد تميم، وولد له ابنه هاني عام 1936 وإبنته هناء في عام 1945.
ومنذ عام 1937 أقام الفنان عشرات المعارض وعرضت لوحته الشهيرة “معاوية يركب البحر” في معرض نيويورك الدولي عام 1939. وفي عام 1950 أدرج إسمه في معجم الفنانين الدولي بينيزيت Benezit Dictionary of Artists وكان أول فنان عربي يضاف إسمه إلى هذا المعجم في ذلك الوقت. كان له شرف رسم عدد من الطوابع اللبنانية، وحاز الجائزة الأولى لرئيس الجمهورية اللبنانية في عام 1955 وحمل وسام الإستحقاق اللبناني ووساميّ الأرز الوطني من رتبة فارس ورتبة ضابط.
إستمر فروخ بالعطاء رغم إصابته بمرض اللوكيميا في عام 1952 إلى أن رحل عند الساعة الخامسة من صباح يوم السبت 16 شباط فبراير من عام 1957 في مستشفى المقاصد ببيروت، وصلّي على جثمانه في جامع البسطة التحتا ووري الثرى في جبانة الباشورة، رحمه الله تعالى.
المراجع
طريقي إلى الفن؛ للمترجم له. مؤسسة نوفل؛ ط1، 1986.
رحلة إلى بلاد المجد المفقود؛ للمترجم له. دار المفيد؛ ط1، 1982
متحف نقولا إبراهيم سرسق. مصطفى فروخ. 2003؛ مقالة “مصطفى فروخ بقلمه” لجهينة بدورة.
د. زينات بيطار. مقالة “ريشة كلاسيكية رائدة، وقلم نقدي سبّاق”. الجامعة اللبنانية الأميركية تستعيد الكبير مصطفى فروخ ، 2007.
مقابلات شخصية مع: هاني مصطفى فروخ، المؤرّخ عبد اللطيف فاخوري، علي غلاييني، وغيرهم.
كل اللوحات من مجموعة هاني فروخ ما عدا لوحة “معاوية يركب البحر” من مجموعة زياد دلول.
المصدر : اللواء
* رئيس جمعية تراث بيروت سهيل منيمنة