تشد الحكايات الى خواتيمها، إلا أن الزميلة رولا عبدالله في كتابها الصادر حديثا عن دار النهضة العربية بعنوان “حكاية لا تسأل عن خاتمة”، آثرت المضي عكس سير المزاج السائد في القراءة من حيث القفز بين الفقرات بحثا عن الصفحة الاخيرة والجملة التي تحمل آخر الحلول ، كرمى لمتعة القراءة إذ أن النصوص المتعاقبة مرة بصوت الرجل وأخرى بصوت المرأة تحمل فيضا من الحب والاعترافات ، بما لا يسأل القارئ بعدها عن نهاية يمكن أن تكون سعيدة أو حزينة أو “مدبلجة” وفق المزاج الذي يشتهي الغموض بحثا عن طارئ يبدل في الاحداث أو في النهايات أوفي مجريات القصة.
مجموعة النصوص التي يحتويها الكتاب مغلفة ب”وردية” حكاية حب بين رسام وعازفة قيثارة ، لكن نبش التاريخ والتنقيب في حكايات أيام زمان هو المقصد الرئيسي من قصة تتنقل أحداثها بين الألف الرابع قبل الميلاد والحاضر الذي يمكن أن يكون في أي رصيف أو على قارعة طريق في كرنفال يجمع بين روعة الفنون والريشة والنوتة وتلك الأحاسيس التي تختلط فيها المشاعر بالأسئلة وبداية تعارف .
تحكي عبدالله أنها اختارت في كتابها الثاني الرجوع في الزمن الى الحضارة السومرية، ذلك أن مضامين الكتابة الأدبية في العقود الأربعة الأخيرة أشبعت بمحوري الحرب الأهلية والصراعات الداخلية، ولأنه لا يمكن الهروب الى الأمام في مرحلة زمنية غير مستقرة سياسياً ومن ثم البناء على “صفائحها” المتحركة أدبيا، كان لابد من مواجهة الإحباط المهيمن على النفوس بالتذكير بحقبات مشرفة من الحضارة العربية التي تختزن تاريخاً مشرفاً يدرسه الغرب بكثير من الحماسة والفضول خلافا للإهمال العربي المفتون بفرضية ” كل شي فرنجي برنجي”، وبدلا من الإنبهار بالنتاج الأدبي الغربي ، هناك الكثير ليحكى بالمتعة والشغف اللذين كانا موجودين عن ممالك وملكات وشاعرات وعادات وطقوس وأساطير.
يأتي الكتاب بعد رواية أولى بعنوان ” رقصة المرمر” ، ونحو 20 سنة من العمل في الصحافة اللذين ترى بأنهما يؤديان غرض الكتابة على أكمل وجه، فالتنقيب في الأخبار وفي نبش التاريخ وخوض غمار الأنماط الأدبية والحضارات والعادات ، مهمة إستقصائية فيها من حشرية وفضول الصحافي بالقدر نفسه الذي يجمع غموض ومتعة الكلمات والإستعارات والتشابيه والفصول التي تتعاقب بين صيف وشتاء أدبي.توضح عبدالله ” لا يمكن بناء أوطان بشعوب فارغة من الذاكرة والمشاعر، وعلى هذا الأساس لابد أولا من أن نمتلئ بماضينا، وإن كانت اللغة المستخدمة في النصوص صعبة بعض الشيء نظرا لأنها تمثل حقبة من زمان ولى، فإن العودة إليها مع بعض التبسيط إنما يعيد الرونق الى تشابيه واستخدامات أدبية وصيغ لغوية وشعرية فاتنة “.
وفي البناء على الرومانسية وقصص الحب في الكتابة الأدبية، ترى عبدالله بأنه خيار الزامي في ظل العيش في مجتمعات عربية أصابها التشقق بفعل الجفاف الضارب في مختلف النواحي الحياتية، فمن دون الحب والعاطفة لا مكان للفرح وإنما لهيمنة القسوة والتسلط وفقدان رونق الحياة وعبيرها.
نصوص من الكتاب:
* كان كرنفالا صاخباً يوم التقينا، كشبحين يخترقهما المارة ويكملان المسير، في الطريق الذي لا شكل له، في العاصفة المتروكة على عبثيتها، في الجنون الذي لا ضوابط لجنوحه، في الأرض الموعودة بنا حكاية لا تسأل عن خاتمة.
في ذلك الصباح البارد بلا نهاية، فتحنا الباب على صف طويل من أسئلة تبادلناها في تحية: ماذا عن العازفة في اللوحات؟ ماذا عن لوحاتك في عزفي؟ ماذا عن المصارع؟ الثور؟ الحاشية؟ العربات؟ الموت الجماعي؟ الملكة النائمة؟ السم في الأكواب؟ وماذا عن أحداث نحسّها ولا نعيشها؟ ماذا عن وجهك العالق في ذاكرتي؟ ماذا عن وجهي الذي تسمر في عينيك من مثل حكاية قديمة؟ ماذا عنا نحن اللذين تجمعنا ريشة في مهب الفنون وفي دروب تتقاذفنا ثم أنها تحط بنا أخيراً في كرنفال بلا أدنى موعد.
* بين ذراعيك يبزغ القمر في عباءة أرجوان. يا رسام الليل، شكّلني باللون من فتحة العين الى كسرة الهدب الى قرمزية الشفتين إلى وشوشاتك في النبض تطلب أن إرفعي عينيك يا غرامي، وفي الأذن تهمس: ما لون عيني في عينيك؟.ولا أجيب، أقول في سري: لون عيني رغبتي فيك مع كل ما تحمله هذه الرغبة من جنون. لون عيني لون عشقي : فيروزي الهوى، زمردي المزاج.
* وتسأل، وتسأل، والسؤال غوى بأجفان مطبقة وشفاه مرتعشة وطفولة تلملم طفولة كانت لنا قبل أن تندلق من بين أصابعنا “لعبة كبار”،قبل أن نجلس على حافة السرير، محشورين في الزاوية، وننسى السؤال، وننسى الظلال المضخمة على الجدران ، وننسى أن الأرض تدور إلى أن يفيح النهار ونتمسك بآخر خيوط العتمة: يا ليل ،يا ليل..تقول سلاما، نقول:أمهلنا بعد، نقول:أتركنا، أتركنا، أتركنا، ثمة كلام لنا ، لم نسره بعد.
* ليس بريئا أن تجمعنا قيثارة على أمور كثيرة، أشياء لا تحدث بين لقاء وضحاه، لكننا التقينا على الرغم من ذلك. ولم نبدأ من نظرة، فابتسامة، فسلام، فأمور أخرى في تراتبية المشاعر. لنقل بدأنا من منتصف علاقة، من أنك تخطيت السلام، إنحنيت، وعلى ركبتيك استكان الجسد. وعلى ركبتي احتضنتنا الأيدي، بعد أن جردتني من قيثارتي، وضعتها بيننا، وسألت: كيف أيامك؟، ثم أنك نزعت عن رأسك قبعة القش، لوّحت بها قليلا في الهواء، قبل أن تستقر على رأسي. تأملتني لدقائق، مستغرقاً في ضبط القبعة يمينا وشمالا، ثم في ضبط المشهد، وتابعت الرسم من دون استئذان، مزايداً في الطلب: تابعي العزف، هيا، هيا..
*توقّع الزميلة عبدالله كتابها الثاني بعنوان “حكاية لا تسأل عن خاتمة” في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب ال 62 ، الأحد المقبل في 9 كانون الأول في جناح دار النهضة العربية .
إكرام صعب
[email protected]