الأحداث المتسارعة في سوريا والتي أدت إلى سقوط نظام الأسد، ووصول ثوّار المعارضة إلى دمشق، والإستيلاء على السلطة، دون الصدام مع القوات العسكرية التى كانت تُزنّر العاصمة السورية، تطور مفصلي وتاريخي مهم، تتجاوز مفاعيله الجغرافيا السورية، إلى الفضاء الإقليمي، ويؤشر إلى بزوغ واقع جديد في المعادلة الشرق أوسطية.
سوريا محور صراعات دولية منذ الحرب العالمية الثانية، وطرف بارز في المواجهة في الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وإنضمام سوريا للأخير، حوّلها إلى رأس حربة للإتحاد السوفياتي في التصدي للنفوذ الغربي عامة، والأميركي خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
رغم سياسة القمع الدموية التي إتبعها لتركيز سلطته في بلد إعتاد حصول الإنقلابات العسكرية كل بضعة أشهر، إستطاع حافظ الأسد أن يبني علاقات إستراتيجية مع القادة السوفيات، دون أن يقطع شعرة معاوية مع الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي وفَّر له غطاءً خارجياً لنظامه المخابراتي الصارم.
وعندما وقعت الحرب بين العراق وإيران المنتشية بثورة الخميني، ووقوف الدول العربية،وخاصة الخليجية إلى جانب بغداد، إستطاع الأسد الأب أن يجد صيغة توازن تحافظ على علاقاته مع الدول الخليجية، ولو بكثير من الحذر من جانبها، مع الإحتفاظ بالعلاقات المميزة مع طهران، التي بقيت بحدود التفاهم والتعاون، ولم تصل إلى حد التحالف الإستراتيجي، كما فعل وريثه لاحقاً.
في الصراع العربي ــ الإسرائيلي حرص الأسد الأب على تحييد نظامه عن معمعة مغامرات الفصائل الفلسطينية العقيمة، فأقفل الحدود مع العدو الإسرائيلي، وأزاح المسلحين الفلسطينيين إلى الحدود اللبنانية.
وتعزيزاً لدور نظامه الإقليمي، عمد الأسد إلى الإمساك بملفين مهمّين: الأزمة اللبنانية المتمادية، والخلافات الفلسطينية ــ الفلسطينية المعقدة. ففرض سيطرته السياسية والأمنية على لبنان لثلاثة عقود من الزمن، وحارب منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات لأنه رفع شعار «إستقلال القرار الفلسطيني»، في وجه محاولات الهيمنة الأسدية على مقدرات القضية الفلسطينية.
لم يُحافظ بشار الأسد على تلك المرتكزات التي قامت عليها الحقبة الأسدية الأولى، وأدامت ثلاثين سنة لحكم الأب، الذي عُرف بدهائه وحنكته السياسية. فبدأ يُفرّط، منذ السنوات الأولى لحكمه، بالواحدة تلوَ الأخرى: إختلف مع المجموعة العربية، وفي ذروة الصراع العربي مع إيران، ذهب إلى طهران ليعقد إتفاقاً إستراتيجياً مع إيران ويكرس خروجه من الصف العربي. هدد الرئيس رفيق الحريري، الذي كان يحظى برعاية خاصة من والده، ونفذ تهديده في إغتياله، فكان أن تم إخراج الجيش السوري من لبنان، ، وفقد الورقة اللبنانية. قطع التواصل مع القيادات الفلسطينية وسمح لحزب لله ومجموعات إيرانية أخرى، بإعادة مراكز لها في الجولان المحتل، فعادت الغارات إلإسرائيلية إلى الأراضي السورية، وإلى قلب دمشق أحيانا كثيرة.
وعند إندلاع الثورة الشعبية في درعا سارع إلى قمعها بوحشية، بدل الوقوف على خاطر أهالي التلامذة المُعتدى عليهم، وتطويق موجة الغضب في درعا والحؤول دون إنتقالها إلي المناطق الأخرى. وإستمر في عناده حتى اللحظة الأخيرة في رفض المصالحة مع المعارضة الشرعية، وإدخال الإصلاحات المطلوبة على الدستور، رغم النصائح الروسية المتكررة.
لم يقرأ الأسد جيداً تطورات حرب غزة وإمتداداتها إلى لبنان، وخلفية الحوارات الأميركية ــ الإيرانية، التي أفضت إلى تخلي طهران عن «حماس» في غزة وحزب لله في لبنان، وصرف النظر عن الرد الإيراني على الغارات الإسرائيلية الأخيرة. وأن الحفاظ على النظام في طهران أصبح له الأولوية المطلقة في السياسة الخارجية.
والكلام عن العوامل الخارجية الأخرى لسقوط نظام الأسد فيحتاج إلى حديث آخر.
الحقبة الأسدية أصبحت من الماضي. فماذا عن سوريا الجديدة غداً وفي المستقبل؟
قد يكون من المبكر الحديث عن سوريا بعد وصول المعارضة إلى السلطة وهروب بشار الأسد. ولكن ثمة ملاحظات أولية لا بد من التوقف عندها:
1ـ البيان التطميني الذي وجهته قيادة الثوار إلى لبنان، ومفاده أننا لن نجتاز الحدود اللبنانية، وسنتعاون معاً للحفاظ على الأمن في الحدود، وسنقفل المعابر غير الشرعية، ونحفظ العلاقات الأخوية مع لبنان، أثار موجة من الإرتياح لدى اللبنانيين.
2ـ الخطاب الوطني والمطمئن الذي تعهد في الحفاظ على الأقليات، وعدم التعرض لحرياتها الدينية والثقافية، والتأكيد بأنهم يتمتعون بحقوق المواطنة وواجباتها مثل بقية السوريين. وتأتي في هذا السياق زيارة وفد الثورة إلى مقام السيدة زينب، والحديث مع مسؤول المقام بأن هذا المزار له قدسيته وإحترامه، ولا تدخّل بصلاتكم وطقوسكم، وكل ما هو مطلوب عدم وجود السلاح والمسلحين في هذا المقام.
3ـ الإنتقال السلس للسلطة في العاصمة دمشق، وعدم نشوب فوضى أمنية أو فلتان في عمليات السرقة والنهب، كما يحصل عادة في مثل هذه الأحوال، وتوجيه نداء للمواطنين بعدم التعرُّض لمؤسسات الدولة والأملاك العامة.
4ـ حرص قائد فصائل الثورة الجولاني على الظهور بالثياب المدنية الغربية، وخلع الثوب الإسلامي، وإعلان إسمه الأصلي أحمد الشرع في مقابلاته التلفزيونية مع المراسلين الأجانب، لإبعاد إنطباع التطرف والتعصب عن الثورة التي ستتسلَّم السلطة.
غداً يوم آخر في سوريا..، وربيع دمشق عاد في عز الشتاء..،
فهل تُنعش رائحة الياسمين النفوس بأديم الحرية والكرامة والديموقراطية؟
هل يُنعش ياسمين دمشق الحرية والديموقراطية ؟
صلاح سلام -اللواء