الحلقة الرابعة
كثر هم الذين أُعجِبوا بروعة اللغة العربية وجمالها ودقّتها وأنصفوها، ومنهم المستشرق النمسوي غوستاف غرونباوم (Gustav Edmund Grunebaum) الذي قال: “ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتها [- لغة الضاد -] المدهشة في المترادفات. وتزيّن الدقة ووجازة التعبير لغةَ العرب، وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وإن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات لَيرفعها كثيرًا فوق كل لغة بشرية أخرى، وللغة خصائص جمّة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها، يبين ذلك أن الصورة العربية لأي مثل أجنبي أقصر في جميع الحالات…”.
ما كانت هذه التوطئة إلا لتبيان عظمة اللغة العربية وعقلانيتها وعلاقة معانيها ببعضها بعضًا. ومن هذه المعاني “السِّكِّين” التي تؤدّي إلى “السَّكينة”.
إن السكينة هي الهدوء والركود والاستقرار بعد حركة، لقد ورد في القرآن الكريم ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ (الروم، 21). فالسكينة عكس الحركة الكثيرة التي تؤدّي إلى اضطراب في القلب وفي الجوارح. ففي السكينة ثبات القلوب وهدوء الانفعالات داخلها.
وإذا نظرنا مليًّا في ما يجمع بين “السكينة” و”السِّكين” و”المسكين”، لوجدنا الجذر واحدًا وهو “س ك ن”. فالسكِّين وهي المدية/ الآلة التي تُستَخدَم للذبح، سُمِّيَت بهذا الاسم لأنّها تُسكِن الذبيح بعد إعمالها في نحره فتُهدِّئه وتمنعه من الحركة. أمّا “المسكين” فمأخوذة من السكون وعدم الحركة، وتُطلَق هذه الصفة على الفقير المُعدَم الذي لا يملك مالًا ليسدّ به رمقه وليس عنده ما يُعينه ويُغنيه من جوع، الأمر الذي يحدّ حركته ويمنعه منها، فتنفد طاقته ولا يعود قادرًا على التنقل والعمل والتحرّك.
ومن هذا الاشتقاق أيضًا، التسكين في اللغة العربية، فالسكون يعني قطع الكلام، وهو عكس النطق بالحركات القصيرة: الكسرة والضمّة والفتحة، والطويلة: الياء والواو والألف. ومنه أيضًا، الساكنون أو سكّان المنازل الذين يعودون إليها بعد العمل والحركة والتعب والعناء والذهاب والإياب ليهدأوا ويشعروا بالراحة والسكينة.
بعد هذا، أليست اللغة العربية منزلًا فيه السكينة والراحة والهدوء؟!
الوليد
وليد الخطيب كاتب لبناني