يوم الرابع عشر من آب 2006 تاريخ بدء سريان قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي أوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، والذي تمّ الاستناد فيه إلى القرار الذي أصدره مجلس الوزراء اللبناني بإجماع جميع الوزراء، وانطلاقاً من ورقة النقاط السبع ، قضى القرار بعودة الجيش اللبناني إلى الانتشار في كامل منطقة الجنوب بعد غياب عنها دام لأكثر من ثلاثين سنة حاسماً بذلك أمر السيادة في الجنوب اللبناني لمصلحة الدولة اللبنانية في مواجهة عدوانية وأطماع العدو الإسرائيلي. القرار الدولي الجديد أعاد التذكير والتشديد على القرار الدولي الآخر رقم 1559، والقاضي بمنع السلاح غير الشرعي على الأرض اللبنانية، والقرار الدولي رقم 1680 الداعي إلى ترسيم وإظهار حدود لبنان.
وهكذا تمكَّن لبنان من تحقيق هذا الإنجاز الكبير بفضل اعتماده على ثلاثة عوامل أساسية:
أولاً: النضال والتحرّك الوطني والسياسي والدبلوماسي الذي قادته الحكومة اللبنانية آنذاك، والذي تميّز بقدْرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والحكومية والدبلوماسية المحترفة، والمستند على وحدة اللبنانيين وتضامنهم واحتضانهم لبعضهم بعضاً، والذي تمثّل بالاستقبال الأخوي والمتراحم لدى جميع اللبنانيين الذين اضطروا للنزوح المؤقت إلى خارج المناطق المستهدفة بالقصف والتدمير الإسرائيلي، وهو الموقف الوطني الذي جرى التركيز من خلاله على المشتركات التي تجمع ولا تفرّق بين اللبنانيين، وذلك بما عزّز من صمودهم في وجه العدوان الإسرائيلي.
ثانياً: التصدّي البطولي الذي مارسته المقاومة اللبنانية بشجاعة وفعالية، وحيث قدّم اللبنانيون أنصع صفحات الإقدام الوطني المستبسل، والتضحيات الغالية للشهداء والجرحى والمصابين في مواجهة عدوانية إسرائيل وهمجيتها.
ثالثاً: الاحتضان العربي للبنان من قبل أشقائه العرب ومسارعتهم لنجدته وإغاثته وطنياً وسياسياً ومالياً وتأييدهم ودعمهم له في محنته، ولا سيما من دول الخليج العربي، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية، وكذلك جمهورية مصر العربية وباقي الأشقاء العرب والأصدقاء في العالم، هذا مع التنويه بالدور السياسي الكبير الذي اضطلع به الرئيس الفرنسي جاك شيراك في عملية التوصل إلى صدور القرار 1701.
هذه العوامل الأساسية مكَّنت لبنان من منع إسرائيل من الانتصار، وحالت بينها وبين تحقيق أي مكسب على مصلحة لبنان. ذلك ما أسهم في وقف تلك الحرب المدمرة، وفي تثبيت سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها. وكذلك في إيجاد فرصة جديدة لتحقيق وعي وطني لبناني، وتماسك داخلي في مواجهة العدوان الإسرائيلي حمايةً للبنان وتعزيزاً لمصالحه الوطنية العليا، وحرصاً على حياة مواطنيه وكرامتهم.
وانطلاقاً من هذه العوامل، فقد نجحت الحكومة اللبنانية بعد ذلك في إطلاق وتنظيم وتمويل أوسع وأكبر عملية إعادة إعمار وبناء وترميم بتاريخ الدولة اللبنانية لما دمّره العدوان الإسرائيلي في الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع وسائر أنحاء البلاد من جسور وبنى تحتية ومرافق عامة ومؤسسات تعليمية وصحية وخدماتية.
ولقد تمكَّنت الحكومة اللبنانية حينذاك من توفير التمويل اللازم من خلال الهبات السخية والكريمة – المالية والعينية – التي تقدَّمت بها المملكة العربية السعودية ودولة الكويت ودولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان وجمهورية مصر العربية وجمهورية العراق وغيرها من الدول العربية والصديقة، وكذلك من الدولة اللبنانية.
كما قامت الحكومة من خلال مجلس الإنماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة بإنفاذ التنظيم الدقيق والفعّال، وتأمين الإدارة الحازمة والمنضبطة لإعادة إعمار وبناء وترميم أكثر من 115 ألف وحدة سكنية، وهو ما تمّ إنجازه في فترة قياسية، وبحيوية متقدمة، وحيث تمَّ إنجاز إعمار الكثرة الساحقة منها خلال الثمانية عشر شهراً التالية على وقف العدوان.
خلال أسابيع قليلة، وقبل نهاية العام 2006، عاد المهجرون اللبنانيون إلى بلداتهم وقراهم، وفتحت المدارس أبوابها في جميع أنحاء لبنان ابتداءً من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2006، ورابَطَ الجيش اللبناني على الحدود.
لا بدّ لي في هذا المجال أن استدعي المقارنة بين ما حصل في العام 2006 مع ما حصل بعدها في أعقاب المحنة التي أصابت لبنان في العام 2020 بشأن التفجير المريب والمدمر لمرفأ بيروت ولصوامع الغلال فيه، حيث لا يزال المتضررون اللبنانيون في أرواحهم وأجسامهم وأملاكهم يعانون من عدم القدرة على معرفة الحقيقة الكاملة لذلك التفجير ولا في إحقاق العدالة ولا على إعادة إعمار ما تهدّم.
الحقيقة التي لا بدّ لي أن أذكرها في هذا المجال، وهي انَّه لو لم تبادر الدول العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية على احتضان لبنان ودعم خطط الحكومة اللبنانية الإعمارية ومساعدتها، لبقيت المنازل والقرى مهدّمة حتى الآن، تماماً كما هو حاصل الآن نتيجة انفجار مرفأ بيروت حيث ما تزال منازل كثيرة مهدمة وبحاجة الى بناء وإعادة اعمار.
كما أنّه لا بدّ لي هنا من أن أنوّه بدور أمير الكويت الذي استجاب للتمنّي الذي أبديته له عقب تفجير المرفأ، وذلك في أن تتبنّى الكويت إعادة إعمار تلك الصوامع.
في هذا الصدد، عمدت الحكومة اللبنانية خلال وبعد انتهاء العدوان الإسرائيلي إلى إعلاء شأن المصلحة الوطنية العليا دون غيرها، وهو ما جنّب لبنان الكثير من الخسائر والكوارث والمصائب التي كان يمكن أن تحيق به.
ولذلك، فإنَّ الاستقرار النسبي الذي أصبح ينعم به الجنوب اللبناني اليوم كان بالفعل نتيجة لاتخاذ القرار التاريخي في إرسال الجيش اللبناني الى الجنوب مدعوماً بقوات الطوارئ الدولية.
المؤسف أنّ ذلك التضامن الوطني السامي بين اللبنانيين الذي ساد خلال فترة العدوان جاء من يعكّر صفوه من خلال الممارسات والتصريحات التي عملت على إثارة العصبيات والتشنجات من خلال حملات الاتهامات والتخوين بين اللبنانيين. ذلك ممّا ضيَّع عليهم فرصة لم تتكرّر بعدها من أجل تعزيز التضامن والتلاحم الأخوي والتراحم بينهم لتنضم إلى سلسلة من الفرص المضيَّعة والمبددة التي عانى ولا يزال يعاني منها لبنان نتيجة سوء التقدير والتدبير، والاستمرار والتغول في التسلّط على الدولة في دورها وسلطتها وصلاحياتها.
إن إعادة قراءة هذه التجربة بكل دروسها يجب أن تدفع جميع اللبنانيين إلى التمسك بمسلمة أساسية تنطلق من أن قرار الحرب والسلم باعتباره قراراً يختص بالمصير الوطني، ويجب أن يكون منوطاً حصراً بالدولة اللبنانية بما أنها هي الجهة الدستورية والسياسية والقانونية التي تجمع كل أطراف الشعب اللبناني وتمثلهم، والتي يمكنها أن تقرر بإسمهم وتتحمّل المسؤولية نتيجة قراراتها، وذلك استناداً إلى شرعيتها الدستورية وقدرتها على تجميع كل الإمكانيات والطاقات المتاحة، العسكرية والبشرية والمالية التي يجب أن توضع بكنف وإمرة الدولة اللبنانية لمواجهة العدو الإسرائيلي وللتصدّي لكل محاولات التفرقة بين اللبنانيين، وبالتالي تحقيق الإنقاذ الوطني.
ولذلك، وبمقارنة بسيطة بين أحوال الأمس واليوم، يمكن لنا أن نتبيّن كيف نجح لبنان سابقاً في اكتساب الدعم والرعاية العربية والدولية، بما ساعده ومكّنه من الخروج من تلك المحنة الطاحنة والرهيبة. بينما، وفي المقابل، ها هو لبنان اليوم يتخبّط في خضم أزْمة وطنية وسياسية وحكومية، حيث لم يتمكّن المجلس النيابي حتى الآن من انتخاب رئيس جديد للجمهورية يقود مسيرة إنقاذ لبنان، كما لم يتمكّن لبنان من إعادة استكمال المؤسسات الدستورية. إذْ لا يزال يتعذّر على لبنان تأليف حكومة فاعلة مكتملة الصلاحيات تتولى تنفيذ عملية الإنقاذ الوطني، وذلك بعد استفحال الانهيارات الاقتصادية والمالية والإدارية والمعيشية الكبرى التي حوَّلت غالبية الشعب اللبناني إلى خط الفقر وما دون.
في المقابل أيضاً، ما يزال الطرف المعروف يسعى لإحداث المزيد من المتاعب للمواطنين اللبنانيين وللوطن وللدولة اللبنانية، ومن بينها توريط لبنان في مواجهات ومخاطر عسكرية لا قبل للبنان بمواجهتها أو تحمّلها، بينما يجهد لبنان في التفتيش عن طريق لا يجدها للعودة الى كنف الأسرة العربية، وإلى المجتمع الدولي الداعِميْنِ والمتفهّميْنِ لمشكلات لبنان، ولتنفيذ الإصلاحات الضرورية، ولتوفير مقتضيات استعادة الدولة اللبنانية لدورها وسلطتها وهيبتها، ولاستعادة الحياة الوطنية والكريمة والمستقرة والآمنة للبنانيين.
إننا في لبنان، وفي هاتين المرحلتين – الحالية والمقبلة – أحوجُ ما نكون للاحترام الفعلي والكامل لهذا القرار وما يعنيه، وذلك ترسيخاً وتعزيزاً للشرعية اللبنانية، وتقديم الدعم لها في وجه كل الأطماع، والحيلولة دون الافتئات على الدولة اللبنانية في دورها وسلطتها وقرارها الحر.
لهذا يبقى إيماني قوياً – وكما كان – بأنّ لبنان سيبقى كما يريده أبناؤه، ورغم كل المِحَن والاستيلاءات، قوياً وسيداً وحرّاً وعربياً كبيراً بعيشه المشترك وتضامن أبنائه، ومسلّحاً باحترامه للدستور ولوثيقة الوفاق الوطني، واحترامه لقرارات الشرعيتين العربية والدولية ذات الصلة وفي طليعتها القرار رقم 1701.
الرئيس فؤاد السنيورة
* لمناسبة الـذكرى 17 لصدور القرار 1701
المصدر : اللواء559