يتصدر سعر البصل اهتمامات اللبنانيين المعيشية خلال اليومين الماضيين، على الرغم من كل ما تشهده البلاد من أزمات وانهيار مالي بلغ بدوره اليوم حدوداً غير مسبوقة، بعد انخفاض قياسي لسعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، 74 ألف ليرة للدولار الواحد.
القفزة الكبيرة في أسعار البصل، ونقص كمياته في الأسواق، جعله طاغياً على حديث الرأي العام ومواقع التواصل الاجتماعي، في بلاد لطالما كان سعر البصل فيها، مضرب الأمثال الشعبية في الرخص.
“لدي زبائن اشتروا اليوم بصلة واحدة، وغيرهم كانوا عاجزين عن ذلك، ففضلوا شراء الخبز بدل البصل، حتى نحن كنا نُجيب الزبائن عن سعر البصل بخجل، انخفض البيع وخفضنا من كمية البصل التي اشتريناها للبيع. ماذا يعني كيلو بصل بـ 75 ألف ليرة، و3 أكياس كبيرة بـ 3 ملايين ونصف، يعني أننا بتنا في وضع مرعب”، يقول ربيع الصايغ، بائع خضار في سوق عاليه، في جبل لبنان.
وبينما كان يتراوح سعره بين 25 و35 ألف ليرة، بات مبيع كيلو البصل يتراوح من 75 ألف ليرة إلى 95 ألفاً خلال اليومين الماضيين. رقم خيالي بالنسبة إلى سلعة كالبصل، يزرع بوفرة في لبنان الذي يصدره بدوره إلى الدول المجاورة الأمر الذي أثار استهجاناً كبيراً، وجعل كلمة “كيلو البصل” من بين الأكثر استخداماً على موقع تويتر بالأمس.
من أفرغ السوق؟
وعلى الرغم من الطابع الساخر الذي طغى على تعليقات اللبنانيين، تمحورت التساؤلات حول السبب في هذا الارتفاع الجنوني في سعر البصل على وجه التحديد، وتراجع توفره في الأسواق، فضلاً عن انتشار نوعيات بصل منخفض الجودة، الأمر الذي كشف عن قصة أخرى شهدتها السوق اللبنانية، يرويها لموقع “الحرة” رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع، إبراهيم الترشيشي.
بحسب الترشيشي مشكلة البصل ناتجة عن عوامل عدة، بعضها ذو طابع عالمي يرتبط بانخفاض إنتاج البصل في أبرز دولتين مصدرتين له حول العالم، الهند وباكستان، “بسبب سيول وفيضانات ألحقت أضراراً كبيرة بمواسم البصل، فانخفض الإنتاج وسط ارتفاع الطلب، ما أدى الى ارتفاع سعره عالمياً”.
ويلفت الترشيشي إلى أن سعر كيلو البصل في سوريا يساوي دولاراً منذ 5 أشهر، والأمر نفسه في العراق، “حتى في تركيا التي تعتبر من أبرز مصادر البصل في المنطقة، سعر الكيلو يساوي دولاراً، وبالتالي ارتفاع السعر في لبنان جاء متأخراً بالنسبة للدول المحيطة به”.
أما على الصعيد المحلي، فإن الخسائر التي تكبدها مزارعو البصل خلال العام الماضي بسبب كساد المحصول، وفق الترشيشي جعلتهم يحجمون عن زراعة البصل هذا العام، “ومن تجرأ فقد خفّض في الكميات، ما جعل الإنتاج المحلي أقل من ان يلبي حاجة السوق”.
لكن ما زاد من الوضع سوءاً، كان إقدام تاجر على شراء كامل كميات البصل من الأسواق اللبنانية، وبشكل مباشر من المزارعين دون المرور بجهات وسيطة، وقام بتصديرها إلى ليبيا، وفق ما يؤكد رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع الذي يكشف أنه “وبدلاً من شرائه بسعر السوق الذي كان يبلغ 350 دولاراً للطن، دفع الليبيون 400 دولار، ما زاد من تجاوب المزارعين معهم واقبالهم على بيع الموسم.”
ويوضح الترشيشي أن “ما حصل لا يخرج عن المسموح أو الإجراءات والقوانين المرعية، وبالتالي لم يكن هناك مخالفة معينة في ذلك، ولكن نتيجته كانت أن فُقد البصل من السوق اللبناني، حتى الليبيين لم يكن لديهم علم مسبق بأن البصل سينقطع أو سيكون هناك شح عالمي في الإنتاج، وبالتالي لم يكن الأمر عن سوء نية”.
يذكر أن أسعار البصل في ليبيا أيضاً سجلت ارتفاعاً غير مسبوق، حيث وصل سعر الكيلوغرام الواحد إلى ٧ دنانير، متجاوزاً أصناف كثيرة من الفواكه والخضار المستوردة والتي عادة ما يرتفع ثمنها بأضعاف عن البصل.
الصادرات تضاعفت
وتعقيباً على الارتفاع الحاصل في سعر البصل، أصدر المكتب الإعلامي في وزارة الزراعة اللبنانية، بياناً أوضح فيه أن “السبب مرده ارتفاع كلفة النقل والشحن العالمي، بالإضافة إلى زيادة الصادرات اللبنانية من منتجات زراعية بسبب تدني سعر صرف العملة الوطنية على حساب الدولار الأميركي، ما شجع عمليات التصدير باتجاه الدول المجاورة أكثر فأكثر، حتى قاربت ضعفي نسبة السنوات السابقة”.
وتابع: “ويضاف إلى ذلك تدني واردات المنتج (البصل)، رغم أن عملية استيراده من جميع دول العالم تعتبر متاحة في الفترة الممتدة بين 15 كانون الأول (ديسمبر) إلى 31 آذار (مارس) من كل عام، وذلك استنادا لقرار وزير الزراعة رقم 1/24 تاريخ 29/9/2021”.
وختم البيان: “يهم وزارة الزراعة أن تؤكد حرصها على تأمين الدعم إلى المزارعين ومساندة المستهلك اللبناني في الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها، وتتمنى على جميع الإدارات والأجهزة المختصة التفاعل الفوري من أجل حماية المستهلك اللبناني عبر تطبيق القوانين المرعية الإجراء في حق جميع المخلين بالقطاعات المختصة بالأمن الغذائي بشكل عام، وقطاعي الزراعة والصناعة بشكل خاص”.
وكان لبنان قد اتخذ إجراءات عقب الغزو الروسي لأوكرانيا وما تسبب به من تهديد للأمن الغذائي العالمي، وفي لبنان على وجه الخصوص، يمنع من خلالها تصدير المنتجات التي تشكّل صلب الأمن الغذائي وتستخدم في الصناعات الغذائيّة مثل الحبوب كالفاصولياء والفول والعدس والحمّص، بالإضافة الى الزيت والأعلاف، فضلاً عن منتجات زراعية كالقمح على أن تستمر مراقبة الأسواق من أجل تحديد الأصناف المسموح وغير المسموح تصديرها وفقاً لحاجة السوق.
لكن ومع مرور الوقت واستمرار الانهيار للعملة المحلية، بات التصدير ضرورة لضمان حصول المزارع اللبناني على مردود كاف بالدولار في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة، وبالتالي تراجعت الإجراءات المفروضة على التصدير.
في حينها كان الهدف أيضاً من تلك الخطوة أن تستقر الأسعار، وفق الترشيشي، إضافة إلى حفظ الأمن الغذائي، “ولكن نعود إلى السبب الرئيسي للمشكلة اليوم وهو ضعف الإنتاج هذا الموسم، لو كان إنتاج البصل طبيعياً وغزيراً كما سبق، لما كانت تأثرت الأسواق إلى هذا الحد بانقطاع البصل.”
وينتج لبنان نحو 50 ألف طن من البصل سنوياً. ويستهلك يومياً 100 طن أو ما يعادل بين 3000 الى 5000 طن شهرياً.
ولكن.. أين الانقطاع؟
في المقابل، يعبر ربيع عن صدمته من الحديث عن انقطاع للبصل في الأسواق، ويصفها بالادعاءات المقصودة، “اليوم توجهت إلى سوق الجملة لبيع الخضار، وكل التجار كانوا يعرضون بصل بكميات كبيرة، مئات الصناديق أمام كل محل، فأين الانقطاع الذي يتحدثون عنه لتبرير ارتفاع الأسعار؟ اشترينا أقل من حاجتنا للمحل، ولولا اضطرارنا لما اشترينا أبداً”.
ويرى بائع الخضار أن كل تاجر يتبنى قصة مختلفة لتبرير ارتفاع الأسعار، “هناك من يتحدث عن تصدير كل الكميات من السوق وهناك من يتحدث عن ورود شحنة بصل من مصر غير مطابقة للمعايير ما أدى إلى إعادتها وتأخير تزويد السوق اللبنانية، ولكن حسبما رأيت كله تلاعب واحتكار من التجار ولا حقيقة لموضوع العرض والطلب وانخفاض الكميات، اليوم من يملك مخزونا من البصل يتحكم بأسعار السوق، ويحتكر المنتج، فقط لا غير”.
وينقل ربيع ملاحظته لنوعية بصل أقل جودة معروضة في الأسواق، ويؤكد أن مصدرها تخزين قديم في البرادات، “هذا البصل يحتوي على كمية مياه أكبر ويفتقد إلى طعم البصل الحاد، كذلك يفسد في الأسواق أو البيوت بسرعة أكبر، لكنه بات يجد مشترين له في ظل ارتفاع الأسعار والحديث عن انقطاع”.
ويلفت بائع الخضار إلى أن القضية ما عادت حكراً على البصل، “البطاطا والجزر والثوم وكافة أنواع الفواكه والخضار باتت أسعارها خيالية بما يفوق المقبول، والأكثر رعباً أننا نقترب من شهر رمضان، حيث تشهد الأسعار ارتفاعاً مضاعفاً، لا أعلم كيف سنبيع وكيف ستشتري الناس بعد ذلك”.
الأسعار لن تنخفض
يذكر أن الإنتاج المحلي للبصل يبدأ من شهر مايو ويمتد حتى شهر أكتوبر، ما يعني أن لبنان سيكون مضطراً لاستيراد البصل خلال المدة المتبقية إلى شهر مايو.
في هذا السياق يؤكد الترشيشي أنه وابتداء من نهار الاثنين المقبل سيكون البصل متوفراً في الأسواق مع وصول شحنة جديدة من مصر، “ولكن ذلك لا يعني أن ثمنه سينخفض، حيث سيبقى مرتفعاً بحكم أنه مستورد، وقد يستقر سعر الطن على نحو 500 دولار عند استيراده إلى مرفأ بيروت، من بعدها يتم توزيعه في الأسواق”.
يذكر أن لبنان يحتل الترتيب الثالث عالمياً والأول عربياً في قائمة الدول الأكثر تضرراً من تضخم الغذاء بعد أن سجلت البلاد ارتفاعاً بنسبة 143% في أسعار المواد الغذائية بنهاية شهر يناير من العام الحالي، بحسب آخر تقرير عن البنك الدولي.
وقال البنك الدولي في بيان صحفي أن تضخم أسعار الغذاء المحلية لا يزال مرتفعاً في مختلف أنحاء العالم وتظهر المعلومات الخاصة بالفترة بين سبتمبر وديسمبر 2022 ارتفاع معدلات التضخم في جميع البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل تقريباً.
المصدر : الحرة – حسين طليس
عدسة nextlb.com