
تواصلت لليوم الثاني على التوالي، أعمال ندوة ” لبنان خمسون سنة على 13 نيسان 1975… الآثار والمتغيّرات”، التي نظَّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، فِي فندق جفينور روتانا – بيروت، والتي تضمنت جلستين، تحدث فيها خمسة باحثين في محورين اشتملا التغيرات البنيوية والهيكلية والعملياتية التي طرأت على الأحزاب اللبنانية، والتأثيرات التي طاولت المجالين التربوي والثقافي.
وامضى المؤتمرون يومين بحثيين نظّمهما، المركز أمس وأول من أمس، فرعُ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت، بفندق جفينور روتانا، تحت عنوان “لبنان، خمسون سنة على 13 نيسان 1975: الآثار والمتغيّرات”، بمشاركة 17 باحثة وباحثاً لبنانياً قاربوا موضوعة الندوة من خمسة محاور: الاقتصاد، والمدن، والنزوح الداخلي والهجرة، والأحزاب، والتربية والثقافة.
في كلمته الافتتاحية، أكّد مدير فرع المركز العربي ببيروت، الباحث خالد زيادة، أنّ “الوقت بات مناسباً لمراجعة المتغيرات التي فرضتها الحرب، خاصة أن فرصة عقد التسعينيات (العُشرية الأولى بعد انتهاء الحرب) قد أُهدرت على وقع الفساد والإفلاس، وأن القراءة التي تحاولها الندوة اليوم تأتي في سبيل إدراك الواقع”. تلت افتتاحية زيادة كلمةٌ أُخرى قدّمها نائب رئيس الحكومة اللبنانية طارق متري، الذي أشار إلى أن تقييم مداخلات المشاركين جاء من باب “تصالحها مع تعدّد السرديات، وكونها متحرّرة من المسبقات السياسية والأيديولوجية”، منبّهاً إلى أن “اللبنانيين لم يعرفوا المصالحة الحقّ لأنهم فضّلوا النسيان، كما أنّ لبنان لم يعُد، بعد الحرب، إلى ما كان عليه قبلها”.
مداخلات متحرّرة من الأحكام السياسية والأيديولوجية المسبقة
محور الاقتصاد أخذ موقعاً مفتاحياً من الندوة، وآثر فيه أستاذ التاريخ الاقتصادي في الجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية بطرس لبكي أن يُغطّي “التغيّرات التي طرأت على اقتصاد لبنان”، كما عنون ورقته، خلال نصف قرن منذ نشوب الحرب عام 1975 وحتى اليوم. فصاحب كتاب “كلفة حروب لبنان” (2005) لا يقف عند عام انتهاء الحرب 1990، بل يستقرئ الاقتصاد اللبناني في ذروة ازدهاره عشية اندلاع الحرب (لا يصفها بـ”الأهلية” بل متعدّدة الجنسيات)، وينفذ إلى سنوات الانهيار الراهنة منذ عام 2019. في المحور ذاته، انطلق العميد السابق لكلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية نجيب عيسى من فكرة رئيسة في ورقته “اقتصاد لبنان السياسي بعد العام 1975″، مفادُها أن الاقتصاد اللبناني خضع منذ نشأته لتفاعُل عاملين” الخارج والطائفية السياسية، مُعرّجاً على مسار الاقتصاد بعد مؤتمر الطائف عام 1990، حيث “أُعيد إنتاج نظام طائفي متعدد الرؤوس واقتصاد حرّ يقوم على التدفقات المالية من الخارج”.
ولمّا كان الحديث في المحور الأول موغلاً في لغة الأرقام، بطبيعة الحال، فإنّ مداخلات محور المدن قاربت سنوات الحرب بلغة لم تخلُ من نبرة امتزج فيها تذكُّر الماضي والأسى على الحاضر، كما في مداخلة الأستاذ في الجامعة اللبنانية منذر جابر التي حملت عنوان “أقراص بنت جبيل وأعراس الأحداث”، وفيها يعود إلى البلدة الجنوبية الواقعة على الحدود مع فلسطين، مبتعداً عن السرديات المركّزة على بيروت وتختزل أثر الحرب بالعاصمة، وكذلك يستقرئ صاحب كتاب “يوسف بك الزين: من جبل عامل إلى الجنوب اللبناني” (2022) أبرز المحطات السياسية في تاريخ بنت جبيل منذ عام 1920 إلى يومنا هذا.

خالد زيادة مفتتحاً الندوة (المركز العربي)
ومن أقصى الجنوب نرتحل إلى عاصمة الشمال، طرابلس، التي وقف مدير فرع المركز العربي في بيروت خالد زيادة على أحوالها الديمغرافية والاقتصادية والتربوية خلال الحرب في ورقته “التغيّرات في مدينة طرابلس”، مشيراً إلى التغيّرات التي حفرت عميقاً، من هجرة المسيحيين (أصحاب المهن الحرّة)، مروراً بإغلاق مصانع السكّر والحديد والنسيج، وصولاً إلى “تفريع الجامعة” الذي أدّى إلى نشوء كلّيات وفروع لجامعات محلّية، بينما انتقلت مدارس عريقة كـ”الفرير” والراهبات و”الليسيه” إلى خارج المدينة.
كذلك قدّم كلٌّ من الباحثِين: حلا نوفل، وصقر أبو فخر، وعلي فاعور مداخلاتهم في محور ثالث تناول النزوح الداخلي والهجرة. بدايةً، لفتت نوفل، أستاذة الديمغرافيا والدراسات السكانية في الجامعة اللبنانية، إلى أنّ موجات التهجير الداخلي القسري طاولت معظم الطوائف والمناطق، نتيجة عمليات منظّمة هدفت إلى إعادة رسم الخريطة السكانية وفق اعتبارات طائفية ومناطقية. وتابعت: مع تصاعد وتيرة الحرب، تحولت العديد من المناطق إلى “كانتونات” طائفية متجانسة، وفقاً للمتدخّلة، ما ساهم في تقويض النسيج الاجتماعي والتعددي للبنان. كذلك سلّطت الباحثة الضوء على محاولات ما بعد الحرب، خصوصاً بعد اتفاق الطائف، لعودة المهجّرين إلى مناطقهم الأصلية، وهي جهود واجهت عقبات عديدة ولم تنجح في إعادة التوازن السكاني والاجتماعي.
أمّا ورقة الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات صقر أبو فخر، “الحرب الأهلية اللبنانية واللاجئون الفلسطينيون أعراض اجتماعية وخلاصات سياسية”، فانطلقت من زاوية تأثير الحرب الأهلية اللبنانية بشكل عميق على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، الذين كانوا أصلاً يعانون من الهشاشة القانونية والاجتماعية. حيث أوضح صاحب كتاب “تحوّلات النخبة الفلسطينية” ما عاناه الفلسطينيون من تهجير من المخيمات، وتفكّك شبكات الدعم الاجتماعي، وظهور حالات فقر واستبعاد متزايدة. ومن جهة أُخرى، ناقشت الورقة انخراط منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في الحرب الأهلية، انطلاقاً من موقع دفاعي في مواجهة التهديدات، رغم تباين رؤيتها عن نظرة الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط. وأشار أبو فخر إلى أن “هذه المشاركة أضعفت لاحقاً فرص الاندماج الفلسطيني في المجتمع اللبناني، حيث تقلّص التداخل الجغرافي والاجتماعي تدريجياً نتيجة العُزلة المفروضة على المخيّمات”.
واختُتم اليوم الأول من الندوة بمداخلة لأستاذ الجغرافيا في الجامعة اللبنانية علي فاعور، بعنوان “خمسون سنة على الحرب اللبنانية سكان لبنان بين النزوح الداخلي والهجرة”، تناول فيها البُعد السكاني لحرب لبنان، من خلال رصد النزوح الداخلي، والتهجير، وكذلك الهجرة إلى الخارج. فقد شهدت مناطق مثل بعبدا والمتن وكسروان تركزاً ملحوظاً للنازحين، وفقاً لفاعور، ما أدى إلى تغييرات في التوزيع الديموغرافي. وتابع: “تميز النزوح الداخلي بتعدد مراحله، تزامناً مع فصول الحرب المختلفة، وتأثر بالعوامل الطائفية والمناطقية. أما على صعيد الهجرة الخارجية، فقد استمرت موجات الهجرة إلى الدول الغربية والخليجية، مع فقدان متزايد للكوادر الشابة والمتعلّمة”.
وعلى جدولة يوم أمس الأربعاء، ساهم المتدخّلون بأوراق انقسمت على محوريَ: الأحزاب، والتربية والثقافة. في الأول قرأ الباحث في العلوم السياسية فارس اشتي “تأثير حرب لبنان (1975 – 1990) في الأحزاب السياسية اللبنانية”، معتبراً أنه لا يمكن الجزم بانتهاء الأحزاب القديمة وأبدية الجديدة. فقد تكون مراجعة الأحزاب لتجربتها في أثناء الحرب ومواكبة التطورات مدخلاً لتجاوز الضعف وتعزيز دورها في دولة موحّدة. أمّا الباحث والصحافي زهير هواري فعَنون مداخلته بـ”الحرب الأهلية حقل معرفي بلا ضفاف”، وبرأيه فإنّ “الحرب هي من خطايا اليمين واليسار اللبناني، حيث أطلق الأول العنان للتسلّح والعنف الأهلي، بينما قبل الثاني المنازلة العسكرية”.
الجلسة الرابعة
وكان مدير المركز العربي للأبحاث في بيروت الدكتور خالد زيادة ،ترأس الجلسة الذي استهلّ حديثه بالطلب إلى المشاركين “تجاوز فترة الحرب وعدم الخوض في أحداثها، وقصر المناقشات على التغيرات التي نجمت عن الحرب، كما هو الهدف من هذه الندوة”.
وأشار إلى “أننا في لبنان لم ننصف المتضررين من الحرب، ولا أعطينا الضحايا عدالة، ولم تحصل أي مصالحة وطنية عابرة للطوائف والمناطق، أسوة بالعديد من بلدان أميركا اللاتينية، وببعض الدول العربية، حيث أُنشئت لجانُ عدالة انتقالية تحت مسميات مختلفة، منها هيئة الإنصاف والمصالحة، التي أُنشئت في المغرب بقرار ملكي في بداية العام 2004”.
واعتبر أن “التغيرات التي طرأت على لبنان خلال الخمسين عامًا، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو التربوي أو تركيبة الأحزاب، كانت ستحصل سواء وقعت الحرب أن لم تقع، فلبنان ليس بمنأى عن التغيرات التي عصفت بالعالم، وخصوصًا بعد انهيار الكتلة السوفياتية وما استتبع ذلك من تغيرات على مستوى العالم”.
ثم تحدث الأستاذ الجامعي والباحث والكاتب الدكتور فارس اشتي عن “تأثير حرب لبنان (1975-1990) في الأحزاب السياسية اللبنانية”، واعتبر أن “الحرب كانت امتدادًا للسياسة وصراعًا على الوجود والموارد، إقليميًا وداخليا، فالأحزاب، التي يفترض أنها مدنية وتسعى للسلطة، تداخلت مع قوى مجتمعية متصارعة ودول خارجية”.
وعرض” تأثير الحرب على مكونات الأحزاب، سواء من حيث ساحة العمل، أو الهدف، أو الأيديولوجية، أو الفئات الاجتماعية من حيث تغير التركيبة الطائفية والطبقية للأحزاب، أو أساليب النضال من حيث غلَبة العنف والتحشيد الطائفي”، وشدّد على أن “الأحزاب كانت فاعلة ومنفعلة بالحرب، وأن غياب الدولة فكراً وقانوناً سهّل الانزلاق نحو العنف والعصبيات الأولية”. وختم داعيًا إلى “جهد نظري لبناء الدولة في ظل التغيرات الراهنة”، ولا سيما في مرحلة ما بعد الطائف التي أفرزت تحولات كبرى، منها هيمنة أحزاب طائفية، وشهدت انهيار الأحزاب اليسارية والقومية بسبب تغير الموازين الإقليمية”.
أما الدكتور زهير هواري، فكانت له مداخلة عن “الحرب الأهلية حقل معرفي بلا ضفاف”، وتحدث عن ” مسيرته الحزبية الطويلة من حركة القوميين العرب مرورًا بمنظمة العمل الشيوعي وصولاً إلى منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني”، وركّز على “دور منظمة العمل الشيوعي، التي كان عضوًا فيها، في نقد الحرب الأهلية اللبنانية التي شاركت فيها بدايةً انطلاقًا من رؤيتها بضرورة إسقاط النظام الطائفي”.
وعرض للمراجعة التي انخرطت فيها المنظمة، وهي “المراجعة التي أدت إلى تحول فكري عميق تجلى في نقد الماركسية-اللينينية التقليدية، وفي الدعوة إلى اشتراكية رحبة، تأخذ في الاعتبار التغيرات المجتمعية وتدعم الدولة الليبرالية الديمقراطية كمدخل لبناء مجتمع اشتراكي حرٍّ من السيطرة والاستغلال”.
و اعتبر أن “المجتمع اللبناني بطائفيته لم يبتعد كثيرًا عن شرارة الحرب الأهلية، وهي الحرب التي يعتبر أنها لا تزال مستمرة على الرغم من مرور 50 عامًا”.
الجلسة الخامسة
وترأس الجلسة الخامسة والأخيرة في محور التربية والثقافة،العميد السابق في كلية التربية في الجامعة اللبنانية الدكتور جوزيف ابو نهرا ، و شارك فيها الأستاذ الجامعي ومستشار التعليم العالي الدكتور عدنان الامين بورقة بعنوان: “التعليم في لبنان تحت وطأة الحرب الأهلية”، و اعتبر فيها أن “الحرب الأهلية في جانب منها حفّزت توسع التعليم ونمو الفرص الدراسية، حيث شهد التعليم العالي توسّعًا غير مسبوق، بإنشاء جامعات خاصة، وفي إنشاء فروع للجامعات القائمة، لكن هذا الازدهار الكمي كان على حساب جودة التعليم، ما ساهم في تضرر البنية التحتية التعليمية، وتفكّك الإدارة التربوية، وتداخل نفوذ الميليشيات في المؤسسات”. وختم آسفا أن “أخطر آثار الحرب على التعليم هو استمرار التنشئة السياسية المكثّفة في المؤسسات التربوية، واستمرار تراجع التعليم الرسمي”، وقال: “ما زرعته الحرب لا تمكن مواجهته إلا بزراعات بديلة من خلال نظام مختلف لحوكمة القطاع التربوي”.
أما الأستاذ الجامعي ومدير المركز الإقليمي للتوثيق والدراسات الدكتور سيمون عبد المسيح فتحدث عن “منحنيات التربية والتعليم في لبنان منذ ما قبل الحرب إلى ما بعدها (1946- 2025)، إشكالية العلاقة بين التربية والمجتمع في السياق اللبناني، مشيراً إلى إمكانية تطبيقها لفهم أعمق لتأثير الحرب الأهلية على التربية وتأثُّر التربية بها، بدلاً من مجرد تحميلها مسؤولية جزئية أو اعتبارها ضحية”.
وعرض “محاولات الإصلاح التربوي التي جرت في التسعينيات لترميم الأضرار وتحديث المناهج مع التأكيد على الوحدة الوطنية، وصولاً إلى الاستراتيجيات الوطنية والمشاريع الإصلاحية الحديثة، على الرغم من التشاؤم السائد في ظل الانهيار المستمر الذي يساهم بشكل كارثي في إنتاج أدبيات تربوية متشائمة”.
من جهته، تحدث الكاتب والروائي محمد ابي سمرا، عن “ثقافة الحرب وإرثها: التكرار العقيم على الآثار السلوكية والأخلاقية للحرب الأهلية في حياة اللبنانيين اليومية، بدلاً من الإنتاج الثقافي النخبوي، مع أن وقف الحرب الأهلية كان بإرادة خارجية، فإن اللبنانيين لم يسائلوا أنفسهم عن أسبابها، بل جنح زعماؤهم إلى تكريس سلطتهم”،
واستنكر “زهو الجماعات وزعمائها بهوياتهم العصبية وحروبهم، وتكرار منطق الغلبة والانتقام”، وانتقد الاحتفاء بـ”البطولات الدموية كأنها المأثرة الوحيدة في تاريخ لبنان، وعدم القدرة على تجاوز العصبيات الطائفية في السياسة، وتحصن الزعماء في السلطة على أسس عصبية”.
وختم ب”تساؤلات حول مستقبل الركام المتبقي في بلد استُنزف، حيث لم يعد يجدي الكلام المجرد عن الدولة والقانون في ظل فوران الغرائز الطائفية والرغبة في الفرار”.